غيَّرَت الأزمة الاقتصادية وما تبعها من انهيار لقيمة الرواتب، وجهة استعمال تحويلات المغتربين إلى لبنان. فلعبِت التحويلات قبل الأزمة دوراً في تحسين نوعية حياة الأسر من خلال تعزيز المستوى التعليمي والصحي والترفيهي لأفرادها. أما خلال الأزمة، فجُلّ الإنفاق يذهب نحو تأمين الحاجات الأساسية كالأكل والشرب والمسكن والكهرباء.
ومع ذلك، تلعب التحويلات دوراً اقتصادياً هاماً في التنمية الاقتصادية فيما لو جرى توجيهها بصورة صحيحة نحو الاستثمار. لكن ما سجّله برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في لبنان UNDP على مستوى مبادرة الدولة للاستفادة من أموال المغتربين، يتناقض تماماً مع ما يجب فعله. فالدولة، مُمَثَّلة بالحكومة والمصرف المركزي، وضعت شروطها للاستفادة من تحويلات المغتربين، وذلك يُظهِر مؤشِّرات سلبية للمستقبل.
دعوة لاستغلال التحويلات إيجابياً
في نهاية العام 2022 قدَّرَ البنك الدولي حجم تحويلات المغتربين إلى لبنان بـ6.8 مليارات دولار مقارنة مع 6.6 مليارات دولار في العام 2021. وحجم التحويلات هذا، الذي يمثّل 37.8 بالمئة من الناتج المحلّي، جعل لبنان في المركز الثالث إقليمياً والثاني عالمياً من حيث مساهمة تحويلات المغتربين في الناتج المحلّي الإجمالي. وهذا مؤشِّر غير سليم لأنه يعكس حجم اعتماد الاقتصاد اللبناني على التحويلات وليس الاستثمارات في القطاعات الاقتصادية.
وكما استغلَّت الدولة تحويلات المغتربين وأموال المستثمرين قبل الأزمة لخلق اقتصاد غير مُنتِج، لم يتغيَّر النهج رغم الحاجة لتغييره، على الأقل لإقناع المجتمع الدولي وصندوق النقد بنيّة إجراء الإصلاحات المطلوبة للخروج من الأزمة. وعدم تغيير النهج، جعل الـUNDP توجّه اهتمامها نحو ضرورة استغلال التحويلات بصورة إيجابية لتحقيق التنمية الاقتصادية عوَض استهلاك جزء كبير من التحويلات لسدّ كلفة الحاجات الأساسية للأسر.
وخلال مؤتمر صحافي عقد يوم الخميس 8 حزيران، لإطلاق تقرير “دور وأهمية الحوالات المالية المتزايدة في لبنان”، حذّرت الممثّلة المقيمة لـUNDP في لبنان، ميلاني هاونشتاين، من أن استخدام التحويلات النقدية لخلق شبكة أمان للأسر التي تعاني من آثار الأزمة، وتضاؤل الاستثمارات في الصحة والتعليم كما كان حاصلاً قبل الأزمة “سيكون له تأثير ضار على آفاق التنمية في لبنان”. واستغربت هاونشتاين كيف أنه رغم احتلال لبنان للمرتبة 112 في مؤشّر التنمية البشرية في التقرير التنمية 2021-2022 “لم يتم فعل أي شيء لعكس هذا الاتجاه”.
ولضمان استغلال التحويلات بصورة أفضل، دعت هاونشتاين الدولة اللبنانية إلى الاقتداء بدول مثل الهند والمكسيك وغيرهما، لرؤية “كيف يمكن للتحويلات أن تسهم في تسريع التنمية”. إلاّ أن ذلك ينحصر بتوفُّر الشفافية والعمل على تحسين قيمة التدفقات. ولإنجاز ذلك يمكن اتخاذ إجراءات، منها “القيام بعملية فهم أفضل لحجم التدفقات من خلال تعريفات وبيانات دقيقة. تحسين الثقة في الاقتصاد وبيئة الأعمال في لبنان. وضع آليات شفّافة لتوجيه أموال المغتربين إلى الاستثمارات المحلية. وخفض كلفة التحويلات”.
غياب الحوكَمة
تفتقر الأجهزة الرسمية للدولة إلى الوسائل الصحيحة للتعامل مع تحويلات المغتربين. فحسب الخبير الاقتصادي سامي عطاالله، هناك نقص في رصد حجم التحويلات، فالحكومة والمصرف المركزي لم يضعا القنوات اللازمة لمعرفة حقيقة حجم التحويلات. إذ تُرصَد التحويلات التي تتم عبر المصارف ومؤسسات التحويل مثل OMT، لكن هناك طريقة غير رسمية للإدخال أموال المغتربين إلى لبنان، وهي الصندوق الديموغرافي، أو ما يُعرَف بالـ”شنطة”، وهذا ما يقسم التحويلات إلى قسمين، رسمية وغير رسمية، الأمر الذي لا يوفّر معطيات شفّافة عن حقيقة المبالغ المحوَّلة”.
والإنطلاق بصورة خاطئة في التعامل مع حجم التحويلات، يعكس غياب الحَوكَمة في هذا المجال، ويؤكّد أن الدولة اللبنانية تترك مَسرَباً كبيراً للأموال قد يُستَعمَل لتمويل نشاطات غير قانونية. وهذا ما تظهره الأرقام المتوفّر “ففي العام 2017 أتت نصف التحويلات إلى لبنان، عبر المصارف وOMT فيما اليوم يصل 70 بالمئة منها عبر الحقائب، خصوصاً وأن كلفة التحويلات مرتفعة وتصل إلى 11 بالمئة من قيمة المبلغ المحوَّل”. وغياب الحَوكَمة يعني أن الدولة غير مهتمّة بخلق مناخ ثقة لجذب استثمارات المغتربين، بل تدفعهم عبر سياساتها، إلى إغلاق حساباتهم في المصارف والاستمرار بالتحويل لدعم استهلاك الأسر فقط.
ومن هنا، “يتحوَّل تفكير الأسر نحو الاستهلاك وليس الاستثمار والتنمية، وهذا يدفع القطاعين العام والخاص إلى التفكك”، على حد تعبير هاونشتاين التي لفتت النظر إلى أنه بهذا المؤتمر، تضع الـUNDP “كل المعطيات على الطاولة، وتحاول إيجاد قاعدة للحديث مع الدولة والمركزي حول كيف يمكن للمغتربين إدخال التنمية على المستوى المحلّي”.
شروط غير مُعلَنة
على مدى 3 سنوات من عمر الأزمة، لم تلتمس الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي وباقي منظّمات المجتمع الدولي، نية الدولة اللبنانية إجراء تحسينات للخروج من الأزمة. بل على العكس “هناك علامات استفهام حول كيف تحمي المنظومة أعضاءها، وهذا لا يشجّع على الثقة بالدولة”، وفق ما يقوله عطاالله الذي يرى في حديث لـ”المدن” أن “دور الدولة الممثّلة بالحكومة ومجلس النواب والقضاء ومصرف لبنان، يكمن في استعادة الثقة، وهو دور داخلي بحت، ويمكن لـUNDP المشاركة بالدراسات والنقاشات والعمل والتحليل والتفكير”. وحالة عدم الثقة التي تظهرها الدولة تتمظهَر في قرارات مصرف لبنان، مثل القرار 165 الذي يريد فتح صفحة جديدة تتعلّق بالأموال النقدية “الفريش”.
ومع القرار الضمني للمنظومة بعدم إجراء الكابيتال كونترول بالصورة الصحيحة، وعدم إجراء إعادة هيكلة للقطاع المصرفي وعدم محاسبة المسؤولين عن الأزمة، والتمادي في ابتلاع ما تبقّى من ودائع في المصارف، والمسار القضائي في ما يتعلّق بقضايا المودعين وملف رياض سلامة… وغير ذلك، كلّها تمثّل شروطاً غير مُعلَنة لإدارة الأموال النقدية التي تدخل لبنان وفق شروط المنظومة، لا وفق مقتضيات الخروج من الأزمة. ولأن أموال المغتربين تمثّل اليوم التدفقات النقدية الأبرز نحو لبنان، من المجحف إبقاؤها خارج الاستثمار الإنتاجي. لكن لهذا الأمر جانب إيجابي بالنسبة لأسر المغتربين، وهو ضمان عدم الاستيلاء مجدداً على تلك الأموال.