تتّجه الأنظار اليوم إلى المستجدّات التي ستحملها الأيام المقبلة على صعيد تطوير وإستثمار الثروة البترولية في المياه البحرية اللبنانية، وبخاصة في البلوك رقم 9 الذي سيشهد حفر أول بئر إستكشافية في الأول من أيلول المقبل. إذ تعتبر الإكتشافات البترولية نقطة تحوّل مفصليّة في تاريخ ومستقبل الدولة اللبنانيّة، فالبترول ليس فقط مسألة جيولوجيّة وحسب، بل يشكّل أيضاً مسألة سياسيّة تتعلّق بأداء الدولة اللبنانيّة وصياغة السياسات الداخليّة من جهة، كما وبشبكة العلاقات الإقليميّة والدوليّة من جهة أخرى والتي ترخي بثقلها على مسار إستغلال هذه الثروة الحيويّة.
مستجدّات الإستكشاف وتأمين الخدمات
في العام 2020، تمّ الحفر بالبلوك رقم 4 وكانت النتيجة وجود بئر جافة على الرغم من التثبت من وجود آثار للغاز ما يؤكّد وجود نظام هيدروكاربوني واعد. اليوم وبالنسبة إلى البلوك رقم 9، من المعروف أن حفر البئر الإستكشافية سوف يتم في الأول من أيلول المقبل. لذلك وبحسب مصدر متابع لمواضيع الطاقة في لبنان فإن التحضيرات اللوجستية قد اكتملت بكاملها تقريباً.
أولاً، من حيث التلزيمات في مرفأ بيروت بما يتعلّق بالشركة المشغلة للمرفأ والمختصة بتأمين الخدمات اللوجستية، الخدمات التي لها علاقة بالـ»هليكوبتر» التي سوف تنقل العاملين من مطار بيروت إلى منصة الحفر «Transocean Barents»، الخدمات المتعلقة بعملية نقل البضائع والمعدات من مرفأ بيروت إلى المنصة (خطوط الأنابيب…)، كذلك الأمور المتعلقة بخدمات تأمين وتزويد البواخر كما ومنصة الحفر بمادة الـ»ديزل». كل هذه الخدمات تمّ تأمينها من خلال تلزيمها لشركات لبنانية بالتعاون مع شركات أجنبية.
ثانياً، من حيث المواضيع المرتبطة بالخدمات البترولية المختلفة، تمّ تلزيمها لشركتين أساسيتين هما شركة «schlumberger» وشركة «Halliburton» الأميركية وهي من أكبر الشركات في العالم التي تعمل في مجال خدمات حقول النفط والغاز.
هذا من ناحية اللوازم والمعدات المختلفة التي تمّ إستقدامها تباعاً إلى مرفأ بيروت. أما لناحية التحضيرات التي لها علاقة بالتنسيق بين شركة «توتال» من جهة وهيئة إدارة قطاع البترول والوزارات المعنية من جهة أخرى فهي كذلك أصبحت قائمة. بحيث تمّ إطلاق جلستي تشاور في بيروت وصور حول تقييم الأثر البيئي للأنشطة البترولية في البلوك رقم 9، وتمّ أيضاً وضع الآلية اللازمة لموضوع «Permitting Modality» والمتعلق بإستخدام الأجانب والعاملين غير اللبنانيين بالتنسيق مع الأمن العام ووزارة العمل، فضلاً عن التنسيق بالمواضيع الأمنية مع الجيش والأجهزة الأمنية المختصة…
يبقى الموضوع المتعلق برخصة الحفر، التي من المتوجب أن يوافق عليها وزير الطاقة بعد مراجعتها من قبل هيئة البترول وهي لازمة لإطلاق عمليات الحفر في البلوك 9. لذلك، سوف تقوم شركة «توتال» بعرض جميع الظروف المرتبطة بعملية الحفر التي ستحصل، لا سيما العمق الذي سوف يتم الحفر فيه والمعدات المستخدمة لهذه الغاية والتفاصيل المرتبطة بموقع البئر والتفاصيل الهندسية ومتطلبات السلامة… فحالياً لبنان بإنتظار وصول الحفارة للبدء بعملية الحفر.
المرحلة الزمنيّة المتوقّعة لإتمام عمليّة الإستكشاف وبالتالي البدء بالإنتاج
بحسب المصدر المطلع، فإن المرحلة الأولى سوف تمتد لفترة سبعين يوماً، إذ إن عملية الحفر سوف تتم بعمق حوالى 4000 إلى 4200 متر، بعدها يتم التأكد من وجود إكتشاف تجاري من عدمه بحدود نهاية العام الحالي 2023. بعد ذلك من المفترض أن تحصل عملية تقييم وتحديد دقيق للإكتشاف لناحية الكميات المتواجدة لجهة تقييم الجدوى التجاريّة لعمليات إستخراج النفط والغاز، وذلك قبل البدء بعمليّة تطوير الحقول ومن ثم البدء بالإنتاج.
لكن التحدي الأكبر يرتبط بعملية تطوير الإكتشاف لناحية تأمين البنى التحتية المطلوبة وسوق الغاز المتواضع في لبنان… فحسب الكميات المكتشفة تتم عملية تطوير الحقل وإدارة المخزون إن لجهة إمداده في السوق المحلي وإن لجهة تصدير الفائض منه إلى الخارج. وهنا تواجه الدولة اللبنانية تحدياً كبيراً بالنسبة إلى أسواق التصدير والتعاون مع الدول المحيطة لا سيما قبرص، كما وبالنسبة إلى الأسعار التي سيتم بيع الغاز اللبناني بها… فهذه الأمور جميعها محط نقاش بين «توتال» وهيئة إدارة البترول في لبنان.
إذاً، يعتمد هذا الموضوع على الكميات التي من المتوقع إكتشافها. نسبة لذلك هل من الممكن أن نعطي توقعات أو تقديرات للمرحلة الزمنية المطلوبة للبدء بالإنتاج في حال تم التحقق من وجود إكتشاف تجاري؟
يجيب المصدر: «لكي نكون واقعيين لن يبدأ لبنان بالإنتاج قبل أربع سنوات من اليوم. بطبيعة الحال هناك تطوير متعدد الأوجه (Multi-face Development) إذ إن الأولوية اليوم هي للغاز والموضوع مرتبط بكميات الغاز المكتشفة بحيث من الممكن أن تكون الكميات كبيرة. عندها يمكن التوجه مثلاً إلى تأمين إيصال الغاز إلى الزهراني أو تخزينه براً، فكل السيناريوات والمشاريع مطروحة في حينه».
من جهة أخرى، «يوجد تركيبة سياسية لا يمكن إغفالها في لبنان، بمعنى أن هذه البئر التي سيتم حفرها ستلقى دعماً دولياً. لذلك فالطريقة التي تعمل بها شركة «توتال» ليست طريقة تقليدية خاصة بعد الإتفاق على ترسيم الحدود البحرية الجنوبية للبنان، فاليوم «توتال» ملزمة بالإسراع في عملية الحفر وتبيان نتائجه وفقاً لإلتزاماتها في العقد البترولي».
ماذا عن دورة التراخيص الثانية؟
في هذا الإطار، لا يمكننا أن ننسى موضوع دورة التراخيص الثانية التي ستشهد تطورات الأسبوع المقبل. هذا الأمر لا يمكن فصله عن موضوع الإستكشاف، فعملية تلزيم بلوكات جديدة سيأخذ إهتماماً خاصاً في الفترة المقبلة. عوائق عدة تواجه إستكمال دورة التراخيص الثانية أهمها أن عملية دخول الشركات البترولية العالمية بمشاريع إستثمار في أعماق البحار أصبحت محدودة. فضلاً عن أن موضوع عدم التوصل إلى إكتشاف تجاري حتى اللحظة في المياه البحرية اللبنانية يجعل الشركات مترددة بالمجيء والإستثمار في لبنان، كذلك فإن موضوع التحوّل الطاقوي (Energy Transition) يترك أثره من هذه الناحية لجهة توجّه الشركات اليوم نحو الطاقة المتجددة. دون أن ننسى كذلك أن مسألة غياب الإستقرار السياسي في لبنان لا تساعد في جذب المستثمرين.
فالهدف اليوم يجب أن يتمحور حول العمل على جذب الشركات قبل وبعد الإسكتشاف. إلا أن حصول إكتشاف تجاري سيساهم بشكل كبير في جذب المستثمرين وكما في تحسين الشروط المالية للدولة اللبنانية. فالتوجهات في السنوات المقبلة ترتبط بتلزيم باقي البلوكات بحيث من المفترض بعد سنوات أن تكون جميعها ملزّمة.
ماذا عن التحضيرات لمواكبة هذه المستجدّات على مستوى البنية التحتيّة في البرّ اللبناني؟
الدولة اللبنانية غائبة حالياً عن أي مشروع لإقامة إستثمارات في البنية التحتية على المستويات كافة. لذلك فالتعويل على القطاع الخاص الأجنبي في هذا المجال، بحسب المصدر. وهذا تحدّ كبير تواجهه الدولة، بحيث لا بد من النظر الى إهتمامات وأولويات الشركات البترولية بما فيها «توتال إينيرجيز» و»قطر إينيرجي» في المجال الطاقوي، لا سيما لجهة مراعاة مسألة تغيّر القيمة (Value Change) والتحوّل نحو مفهوم أشمل للإستراتيجية الطاقوية الجديدة المتوجهة نحو المصادر المتجددة والنظيفة.
لكن هذا لا يعفي الدولة من مسؤولياتها المباشرة لجهة وضع خطة واضحة وفعّالة لإستحداث بنية تحتية ملائمة تواكب إنتاج الغاز ونقله وتخزينه. فالبنية التحتية في لبنان معدومة، وهي كانت قد شهدت إنهياراً كبيراً خاصة في السنوات الماضية بفعل الإستهلاك المفرط والدمار الذي حل بها. فبالنسبة إلى الغاز الطبيعي، سيوفر إستخدامه ملايين الدولارات سنوياً خاصة في ما يتعلّق بإنتاج الطاقة الكهربائيّة، حيث ستسمح عمليّة توليد الطاقة الكهربائيّة بواسطة الغاز الطبيعي بتوفير من 1.5 مليار إلى 2 مليار دولار سنوياً على الخزينة العامّة. وفي ما يتعلّق أيضاً بعملية دمج الغاز في القطاع الصناعي وقطاع النقل العام.
هذه الخطّة تتكامل مع مشروع خط الغاز الساحلي الذي يربط الشمال بالجنوب والذي يأمل أن يربط جميع معامل الكهرباء والمنشآت الصناعيّة به. إذ إن ربط مرافئ إستقبال الغاز المسال بمعامل الكهرباء وبالمصانع يعتبر أولويّة قصوى، على أن يتبع ذلك دراسة الجدوى الإقتصاديّة والإجتماعيّة لمد أنابيب غاز إلى المدن والقرى. الأمر الذي يتطلب بنى تحتية قوية ومناسبة لمثل هكذا مشاريع تحافظ على نقل وتخزين الغاز ضمن إطار يلتزم بتأمين السلامة العامة.
التطوّرات الإقليميّة وإمكانيّات التصدير: مواكبة وتحدّيات
بدأت «إسرائيل» بالإنتاج من حقل «كاريش» المحاذي للحدود البحرية اللبنانية فور توقيع إتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان في تشرين الأول 2022، فهي كانت قد أطلقت الجولة الثانية عشرة من إتفاقية بيع الغاز في ما خص هذا الحقل.
في هذا المجال، يواجه لبنان تحديات مختلفة خاصة في حال تمّ التثبّت من وجود مكامن مشتركة فالخوف قائم في جميع الأحوال. لكن وبحسب المصدر المذكور، فإن إتفاق الترسيم وبما يتعلق بموضوع حقل «قانا» أعطى شركة «توتال» صلاحية ومهمّة التفاوض مع «الجانب الإسرائيلي» في حال تم التأكد من إحتمال وجود إمتداد لحقل «قانا» داخل «المنطقة الإسرائيلية»، عندها يتم تنفيذ آلية للتعويض بين «توتال» و»الجانب الإسرائيلي» لا دخل للبنان بها. وفي حال عدمه لا يتم التعويض بشيء، فهذا الأمر متروك لمرحلة ما بعد الحفر والتأكد من درجة إمتداد حقل «قانا». كذلك هناك تحديات تواجه لبنان بما خص حقوله البحرية الشمالية المحاذية للحدود السورية لا يجب التغاضي عنها.
التحدي الثاني الذي يواجه لبنان هو أن سوق الغاز المحلي صغير. فإستخدامات الغاز ضاقت قليلاً بفعل التوجه نحو الطاقة المتجددة بحيث أصبح إستخدام لبنان الحالي من الطاقة الشمسية يقدّر بحوالى 900 إلى ألف ميغاواط. لذلك فالطلب على الغاز اليوم لم يعد كما كان في السنوات الماضية فهو في تراجع دائم.
التحدي الثالث يشمل العنصر الجيوسياسي والمرتبط بالمحادثات التي من الممكن أن تؤدي إلى دخول لبنان في إتفاقات ومشاريع طويلة الأمد لتصدير الغاز اللبناني إلى الخارج. فهذا يحتّم على الدولة اللبنانية صياغة إستراتيجية شاملة للطاقة تؤمّن في قسم منها الدينامية المطلوبة والتعاون اللازم مع دول المنطقة. فبعيداً عن السياسة، الجميع يتحمل مسؤولية تقاعس الدولة عن إحداث أي تقدم في القطاع الطاقوي في لبنان، إذ إن غياب الرؤية والتخطيط الإستراتيجي يحتّم الإنتقال نحو مرحلة جديدة تؤمن عملية جدية لصنع القرار على مستوى القيادات والجهات السياسية الكبرى في البلد قبل فوات الأوان.
لذلك، فالخطط التي يجب أن تعتمدها الدولة اللبنانيّة لتصدير الفائض من الغاز الطبيعي في المستقبل، ترتبط إلى حد كبير بالحجم النهائي لثروته وإحتياطاته، كما وترتبط بتحقيق الجدوى الإقتصاديّة من عمليّة الإستخراج والبيع إلى الأسواق المحتملة، خاصة في ظل تعقّد العلاقات الدوليّة وتشابك مصالحها.
فبحكم موقعه الإستراتيجي ووقوعه ضمن منطقة تخضع لتغييرات مستمرّة في موازين القوى الإقليميّة والدوليّة، يواجه لبنان تحدّيات كبيرة ومختلفة منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي، بحيث تطغى بنفسها على مسار التنقيب عن النفط والغاز في مياهه البحريّة، خاصّة في ظل الوضع الصعب الذي يعيشه لبنان بالنسبة إلى الأزمات الإقتصاديّة والسياسيّة والإجتماعيّة التي تعصف بالنظام والمجتمع خصوصاً في الفترة الأخيرة.