خلال الأسبوع المنصرم، اطّلع اللبنانيّون بكثير من الحسرة على تقرير البعثة الرابعة للبنان لصندوق النقد الدولي، الذي صدر رسميًا يوم الخميس الماضي، بعدما أنهت بعثة الصندوق جولتها في شهر آذار الماضي. وأغلب خلاصات التقرير، ارتبطت تحديدًا بالكلفة التي تكبّدها الشعب اللبناني جرّاء تأخّر الدخول في مسار المعالجات الماليّة والمصرفيّة. وحين نتحدّث عن تأخّر المعالجات، فنحن نشير إلى امتناع الدولة عن سداد ديونها منذ آذار 2020، من دون أن تعيد هيكلة الدين. وإلى قطاع مصرفي تعثّر في سداد إلتزاماته منذ تشرين الأوّل 2019، من دون أن تُعاد هيكلته.
زامبيا وسيريلنكا ينجحان في الأسبوع نفسه
في المقابل، ولسخرية القدر، يشهد الأسبوع نفسه أحداثاً يفترض أن يتلقّفها جيّدًا الشعب اللبناني. في اليوم ذاته الذي شهد نَشر تقرير البعثة الرابعة للبنان، بمضمونه المأساوي، كان المصرف المركزي السيريلنكي يكشف عن خطّته الشاملة لإعادة هيكلة ديون بلاده السياديّة، وبالاستناد إلى التفاهم المعقود مع صندوق النقد الدولي منذ شهر آذار. وبذلك، تكون سيريلنكا قد تمكّنت من الوصول إلى الاتفاق النهائي مع الصندوق بعد 11 شهرًا فقط من تخلّفها عن دفع دينها السيادي، فيما نجحت في إعادة هيكلة دينها بعد سنة وشهرين من توقّف سداد هذه الديون.
مع الإشارة إلى أنّ سيريلنكا دخلت مرحلة التعثّر في سداد ديونها في شهر نيسان 2022، أي بعد سنتين وشهر من تخلّف الدولة اللبنانيّة عن السداد. وفي حين أنجزت سيريلنكا التمهيد للمعالجات المطلوبة، من خلال الاتفاق مع الصندوق ووضع خطّة إعادة هيكلة الدين العام، فشل لبنان في إنجاز أي من الخطوتين حتّى هذه اللحظة.
في الوقت نفسه، وقبل أيّأم قليل من نشر تقرير البعثة الرابعة للبنان، كانت زامبيا قد نجحت في التوصّل إلى تفاهم مع دائنيها على إعادة هيكلة دينها العام. وللمفارقة، كانت قيمة الديون الإجماليّة التي تترتّب على زامبيا نحو 32.8 مليار دولار، أي ما يقارب قيمة سندات اليوروبوند اللبنانيّة، التي تعثّر لبنان في سدادها منذ آذار 2020. وتمامًا كحال سيريلنكا، كانت زامبيا قد تعثّرت في سداد ديونها بعد لبنان، فيما تمكّنت من تجاوز هذه المرحلة اليوم قبله.
ومن المعلوم أنّ زامبيا كانت الدولة الأولى التي تخلّفت عن سداد ديونها خلال مرحلة تفشّي وباء كورونا، في تشرين الثاني من العام 2020، أي بعد تسع أشهر من تخلّف لبنان عن سداد سندات اليوروبوند. وكانت زامبيا قد تخلّفت يومها عن سداد دفعة من دفعات الفوائد بقيمة 42.5 مليون دولار، جرّاء عوامل عديدة منها تذبذب أسعار النحاس، في فترة تفشّي الوباء، والجفاف الشديد قبل سنة واحدة، وتراجع المحاصيل الزراعية، بالإضافة إلى تداعيات الوباء على وضع الميزانيّة العامّة للبلاد.
سيريلنكا: تضحية الدائنين على وقع اتفاق الصندوق
في الخطّة التي تطرحها سيريلنكا لإعادة هيكلة ديونها الدوليّة، من المفترض أن تعرض الحكومة على الدائنين شطب قيمة كل سند بنسبة 30%، بما في ذلك سندات الدين الدوليّة، التي تمثّل وحدها أكثر من 25% من الدين الإجمالي. وفي المقابل، ستتعهّد سيريلنكا بتخفيض قيمة دينها العام بنحو الثلثين خلال الأعوام الأربعة المقبلة، ما سيعيد استدامة الدين العام، لتمكين الحكومة من سداد الجزء المتبقي من ديونها. أما أصحاب القروض الثنائيّة، كالدول والمؤسسات الدوليّة، فستمدد فترة سداد الديون لمدّة تقارب 15 سنة، وبفائدة رمزيّة لن تتجاوز 1.5%.
باختصار، سيكون على الدائنين التضحية في عمليّة إعادة هيكلة ديونها، مقابل وعود بخطوات ستفضي إلى سداد هذه الديون في المستقبل. وللحصول على شهادة ثقة، تفضي إلى قبول الدائنين بهذه الصفقة، كان على سيريلنكا الانخراط في برنامج تمويلي خاص من صندوق النقد، بقيمة 2.9 مليار دولار، حيث يفترض أن يمنح الصندوق هذا القرض لسيريلنكا على دفعات خلال مدّة 48 شهرًا. وككل برامج الصندوق، سيكون على سيريلنكا الالتزام بخطوات تصحيحيّة محدّدة في كل فصل، للحصول على الدفعة التالية من قيمة هذا القرض.
في كل الحالات، كانت سيريلنكا قد وقّعت في بداية أيلول 2022 الاتفاق الأوّلي مع صندوق النقد، بعد أربع أشهر فقط من توقّفها عن سداد الديون، فيما احتاج لبنان إلى سنتين وشهرين بعد تعثّره لتوقيع هذا الاتفاق في أّيّار 2022. ثم تمكّنت سيريلنكا من الحصول على الموافقة النهائيّة على التمويل من مجلس الصندوق التنفيذي في آذار 2023، أي بعد سبعة أشهر على الاتفاق الأوّلي، بعد أن تم تنفيذ الشروط المسبقة المنصوص عنها في الاتفاق الأوّلي (لم يوقّع لبنان هذا الاتفاق لعدم تمكنه من تنفيذ الشروط).
زامبيا: إعادة الهيكلة بدعم دولي
يختلف الأمر في حالة زامبيا، التي تبلغ قيمة ديونها الإجماليّة 32.8 مليار دولار، منها 18.6 مليار دولار من الديون الخارجيّة والأجنبيّة. ففي حالة زامبيا، يمثّل الدائنون المؤسساتيون والديون الثنائيّة، جزءًا أساسيًا من الديون الخارجيّة، التي تشمل الصين والدول الغربيّة كأبرز هذه الجهات.
وجاء الاتفاق على إعادة هيكلة هذه الديون مؤخرًا على هامش قمّة في باريس، حيث تم تأجيل آجال الديون حتّى العام 2043، أي لغاية 20 سنة من الآن، مع خفض معدلات الفوائد إلى مستوى يقارب 1%، ما يجعل الفائدة مجرّد نسبة رمزيّة في زامبيا. لكن بالتوازي مع هذا التسامح المفرط، لن يتم الاقتطاع من قيمة الدفعات المستقبليّة، وهو ما يختلف عن حالة سيريلنكا. مع الإشارة إلى أنّ هذه الأطراف، وخصوصًا الصين، فاوضت زامبيا على مدى سنة من الزمان، للتوصّل إلى هذا الاتفاق.
في خلاصة الأمر، ما يمرّ به لبنان حاليًا، ليس سوى نتيجة لتأخر المنظومة السياسيّة بإجراء خطوات معروفة المعالم، وهو ما فعلته بشكل سريع كل من سيريلنكا وزامبيا. ولهذا السبب، يمثّل تزامن هذه الأحداث، مع صدور تقرير صندوق النقد، نقطة لافتة يفترض أن يتوقّف عندها الشعب للبناني، ليعرف أثمان الدفاع عن مصالح المصرفيين والسياسيين اللبنانيين.