لطالما أثار لقب “أم الفقير” الذي صبغ طرابلس طيلة عقود، انقسامًا وتساؤلات حول معناه. فهو إن دلّ على نمط اقتصادي غير مكلف، يشكل ملاذًا للفقراء داخل عاصمة الشمال، قياسًا ببيروت وغيرها من المدن الساحلية؛ لكنه أيضًا، دلالة على تنميط المدينة والتقليل من شأنها، والتسليم بسمتي الخواء والفقر فيها، بينما جوانب كثيرة من الحقيقة خلاف ذلك.
حقيقة الفقر
لا جدال بأن طرابلس تاريخيًا، أفقر مدينة في لبنان، ومن الأفقر على حوض المتوسط. أما اليوم، فسمات الفقر قائمة ومضاعفة وشديدة الظهور، بعدما تعمق انقسامها الكبير بين شرقية وغربية تفصلهما جادة فؤاد شهاب. فالشرقية، تتوسطها قلعة طرابلس المشرفة على نهر أبو علي، ومن حولهما أحزمة البؤس والأحياء الفقيرة الممتدة بين باب التبانة وحي المنكوبين والأسواق القديمة والداخلية وبعل محسن وباب الرمل حتى القبة. والغربية، وهي طرابلس الحديثة التي نشأت على البساتين، وتعيش فيها بعض الأسر المتواضعة ماديًا إضافة إلى الطبقة الوسطى والميسورة، وهي تمتد من شارع عزمي القريب من ساحة التل (وسط المدينة)، مرورًا بمنطقة المعرض والضم والفرز وصولًا إلى الميناء.
لكن هذا الانقسام، والذي تعمق أكثر بعد الانهيار الاقتصادي في خريف 2019، لا يلغي أن طرابلس في مشهدها العام فقيرة، رغم مظاهر اليُسر الجلية بجزء كبير منها. وهذا الفقر بالمعنى الاقتصادي وعلى مستوى الدولة، مرتبط بشلل مرافقها الحيوية كافة، وباستثناء حركة نشطة لا ترقى إلى الازدهار في مرفأ طرابلس؛ ناهيك عن انهيار القطاع الصحي بالمدينة والتراجع الكبير بخدمة مستشفياتها ومستواها.
هل ما زالت طرابلس “أم الفقير”؟
إن طُرح هذا السؤال على أبناء الأحياء الشعبية، في “طرابلس الشرقية”، قد يبدو استفزازيًا للغاية. فمنذ ساعات الصباح الأولى، حين يهرع الناس إلى أسواق الخضار، يظهر اليأس والغضب على وجوههم. تخبرنا إحدى السيدات وهي تعيش في باب التبانة، أن “طرابلس لم تعد رخيصة”. تسأل باستنكار: “وين الرخص إذا الخسة بمئة ألف والتفاح بمئة و50 ألفاً وكيلو اللحمة بأكثر من مليون ليرة؟”. هنا، لا يتعدى معدل مدخول الأسر اليومي الخمسة دولارات. بينما أكثر من 80% من رجال وشباب الأحياء الفقيرة في طرابلس، يعانون إما من البطالة الكاملة أو البطالة المقنعة، مقابل كلفة العيش الباهظة. ففي باب التبانة مثلًا، يبلغ إيجار منزل صغير للغاية ويعاني من النش وآثار الحروب بالمنطقة، ومن دون إمدادات صرف صحي وكهرباء جيدة، ما لا يقل عن 120 دولاراً. أما إذا كان بيت “ابن عالم وناس” نسبياً وأقل خراباً، وفق تعبير أحد سكان المنطقة، فيتجاوز 200 دولار، ويسأل: “من وين منجيبهم مع اشتراك كهربا بـ100 دولار أقل شي، ومصروف يومي كبير؟”.
في مناطق أخرى، مثل القبة وأبي سمراء والزاهرية، وهي تمزج بين الأسر الفقيرة والمتوسطة نسبيًا، لم يقل إيجار المنزل الجيد فيها عن 300 دولار. وهذه أكبر دلالة بالنسبة لأبنائها على حالة الغلاء غير المعهود الذي يعصف المدينة.
هذه الأرقام والمعايير، قد يجدها سكان آخرون خارج طرابلس أقل وطأة من واقع مناطقهم. لكنها في الواقع كارثية بالنسبة لفقراء طرابلس، إضافة إلى واقع صحي وتعليمي منهار، حيث يعجزون عن شراء الدواء والدخول إلى المستشفى وتغطية نفقات التعليم لأبنائهم.
طرابلس المزدهرة
على مقلب آخر، تشهد طرابلس “الغربية” منذ أشهر، ازدهارًا ملموسًا وكبيرًا قياسًا بالسنوات الأولى من الأزمة. ففي منطقة “الضم والفرز” مثلًا، افتتحت تباعًا عشرات المقاهي والمطاعم الجديدة، وهي تكتظ يوميًا بآلاف الرواد، حتى أن بعضها في فترة الأعياد كان يحتاج لحجز مسبق. ولا تختلف كثيرًا عن مقاهي ومطاعم بيروت في لائحة أسعارها. كما يشهد هذا الجزء من المدينة، افتتاح الكثير من المشاريع الجديدة من محال تجارية ومؤسسات ناشئة وملاعب وأندية ومساحات ثقافية. إضافة إلى نشاط بعض الجمعيات التي تقوم بعمليات الترميم والتأهيل. وهو ما تفعله جمعية “للخير أنا وأنت” مثلًا، في تأهيل مستديرات وبعض شوارع المدينة، وكذلك ما فعلته جمعية “موج وأفق” من عمليات ترميم في شارع “مينو” في الميناء ومحيطه، مما أدى لانتعاش الحركة السياحية والاقتصادية في المنطقة. غير أن العمال في هذا الجانب “المزدهر” من المدينة، يعانون من تدني قيمة رواتبهم والمداخيل قياسًا لكلفة معيشتهم الباهظة، رغم الأرباح الهائلة التي يجنيها أصحاب المؤسسات والمطاعم، بفعل ارتفاع أسعارهم على المستهلكين. يقول عامل بأحد المقاهي “الفاخرة” في طرابلس: “راتبي بالشهر والله أقل من كلفة طاولة خدمتها، قعدت عليها وقت الغداء عائلة لساعة أو ساعتين”.
هذا، في حين تعود إيجارات وأسعار المنازل في هذه المناطق من طرابلس إلى الارتفاع بأضعاف ما كانت عليه ببداية الأزمة. فتتراوح مثلًا في الضم والفرز والمعرض والميناء بين 400 و500 و800 دولار. وهذه من كبرى الأزمات التي تعاني منها الشريحة الأوسع من سكان المدينة.
وأمام هذين المشهدين، ما بين طرابلس الغربية والشرقية، تعيش المدينة فصولًا متقلبة ومتناقضة من الازدهار والانهيار، لكنها، وبعين سكانها على الأقل، لم تعد “أم الفقير”.