يؤلمنا أن نسمع أو نقرأ أنّ “مجلس الوزراء ليس سيّد نفسه”، وأنّ “لا غذاء للعسكريين ولا إصلاح للآليات” و”لم نتوقع لحظةً في حياتنا أن نقف هذا الموقف”، ويسوؤنا ويؤلمنا أنّ بعض الأحزاب وهي في أساس وجودها وطنيّة التطلّع، وأعلنت قيامها من أجل العدالة والإنسان والمواطن، وها هي تسلك في وضع الموازنة ما يشير إلى عدم انسجام مع دوافع كينونتها (لن أستخدم مفردات سلبيّة من نوع انفصام مع ذاتها، أو مزاعم نشأتِها…). الشعب بأكثريته بات في موقع المحرومين، والمستغَلّين والمستَضعفين ولا قيمة نهضوية لموازنة تكتفي بترشيد الإنفاق. نعم، الحكومة مضطرة إلى موازنة تتضمّن ترشيداً دقيقاً للإنفاق، أليس هذا أبسط الإيمان؟! وكيف سمح أهل السّلطة أن تكون هناك فوضى في الإنفاق أو الهدر أو “الفساد” لنحتاج إلى الضبط والترشيد؟!. الوطن وشبابه بحاجة إلى موازنة تحمل ملامح رؤية للنهوض بالإنسان والدّولة، وبحاجة إلى موازنة لا تخرق القيم والإتيكا على الأقل. ونعتقد أنّ موازنة بلا روح بِناء، وتغيب عنها الإتيكا، هي باب إلى مآسي الشعب والدولة في آن. وسأكتفي في هذه المقالة بإثارة أربع مسائل لا بدّ لمجلس النواب التوقّف عندها واتخاذ قرار بشأنها لبعض الروح في موازنة 2019.
1- النهوض بالوطن والإنسان وإنهاء العنف البارد، وتنمية روح المواطنة وقبول الآخر مسألةُ ثقافةٍ بالأساس وليست مجرّد قوانين ونشر أيّة ثقافة يحتاج إلى وزارة ثقافة تنشط بما يُحقّق الغاية. لم تلحظ موازنة 2019 في أرقامها ما يُبشّر بنهضة في وزارة الثقافة وبها وعبرها. وإن كانت الدولة مُقصّرة مالياً وغير قادرة على تأمين مبالغ تدعم العمل الثقافي، فهي على الأقل قادرة على التشريع بما يؤمّن مصادر الدّعم وتنشيط العمل الثقافي والتربية الإبداعيّة، والأفكار كثيرة بشأن ذلك (الإعفاء الضريبي عن جزء من أرباح المؤسسات مقابل المشاريع الثقافية، وإلزام البلديات بدعم الثقافة والفنون بنسب مُحدّدة على أن تتبرّرالجدوى من المشاريع التي تحظى بالدّعم ونحن قادرون على رصد ذلك)، ومؤسف جدّاً أن يغيب مثل هذا التفكير عن بنود موازنة 2019. ومؤسف جدّاً أن يغيب عن الموازنة ما يشير إلى اهتمام عميق بالفنانين ونقاباتهم وصناديقهم. والأسف أعمق ألا تحمل الموازنة ما يُشير إلى أنّ المكتبة الوطنية ستحصل على موازنة تسمح لها بجمع التراث الشعبي ونتاج المفكرين اللبنانيين المكتوب والمرئي والمسموع منه. ونأمل الّا تغيب هكذا مسائل عن المناقشات والتشريع في مجلس النواب لموازنة 2019.
2- لا يجوز، وإنّه لمن المؤسف جدّاً أيضاً، أن يغيب عن الموازنة ما يُعبّر عن اهتمامٍ بالمدرسة الرّسمية والجامعة الوطنية ومع تزايد عدد الطلاب في الجامعة اللبنانية (أمر نعمل له منذ سنوات نظراً لنوعيّة ومستوى التعليم في الجامعة اللبنانية، ونظراً لمستوى الخرّيجين ونجاحاتهم المُبهِرة وحضورهم الواثق والمميّز في أسواق العمل في لبنان والخارج)، ليس هناك في الموازنة ما يشير إلى رصد المبالغ التي يفرضها تزايد عدد الطلاب (زيادة أكثر من عشرة آلاف طالب منذ 2015)، والتي تفرضها عصرنة الجامعة اللبنانية، والتي تفرضها الحاجة على أكثر من مستوى إلى تأمين الكادرات الضرورية (تفريغ أساتذة للضرورة وإجراء مباراة لإدخال موظفين بما يُغطّي بحدٍّ أدنى عدد الخارجين إلى التقاعد)، والتي تسمح ببناء المجمّعات (فتعمّ المباني اللائقة المناطق وتستغني عن المباني المستأجرة)، وفي الوقت الذي نسمع عن أرباح طائلة في الجامعات الخاصة (مئات الملايين من الدولارات في مجموعها) والمدارس الخاصّة، نرى الإعفاء الضريبي لتلك المؤسسات مستمرّاً كاملاً ولم تمتد يد نحوه في بناء الموازنة للعام 2019. العدالة الاجتماعية تسمح بضريبة على الأرباح في التعليم الخاص لتوظيفها في خدمة المدرسة الرسمية والجامعة الوطنية والحالة الثقافية عامّة وغالبية أصدقائي من القيّمين على الجامعات الخاصّة المرموقة والمدارس الخاصّة الرصينة مع هذا الطرح، لأنّهم وطنيّون وملتزمون بالحسّ الإنساني والعدالة الاجتماعيّة وما هُم بتجّار. بالتالي، تلك جامعات لا تتوخّى الرّبح في الترخيص لها، ولن يكون لديها مشكلة في إعادة توزيع جزء من الأرباح وتوظيفه في دعم التربية في القطاع العام ولن ترى مانعاً بأغلبها بربط استمرار الإعفاء من الضرائب على الأرباح بتقديمات من تلك المؤسّسات إلى المجتمع.
3- المأساة في الموازنة الجديدة الابتعاد في روح تصنيعها عن الإتيكا، وتحمل بالقوّة تربية خفيّة على نقض العهود والعقود ودحضها. إنّنا لا نرى ما يُجيز نقض العهد مع المتقاعدين من عسكريين وقضاة وأساتذة جامعات وموظّفين سابقين في الإدارات العامّة. هؤلاء بنوا حياتهم وخياراتهم على خطة واضحة: رأى واحدهم مشروعه في خدمة الوطن والدولة، وفي عمل معطاء يصون كرامته ويخرج من بعده إلى التقاعد مضمون الكرامة، وأمضى حياته في خدمة هذا المشروع في إطار عقد اجتماعي واضح تضمنه القوانين. ما يتقاضاه المتقاعد من معاش يأتي في إطار عقد اجتماعيّ وعهد، كيف ننقض العهد معه ونسلبه من معاشه تحت عنوان ضريبة دخل على المعاش التقاعدي وهو ماله الخاص. لقد تجمّعَت للمتقاعد عبر السنوات مبالغ طائلة أخذتها ماليّة الدولة من راتبه شهراً شهراً، وأفادت من فوائد تلك الأموال، ولا يستعيد أي متقاعد تلك الأموال كاملة بموجب معاشه حتى وإن عاش حتى الخامسة والثمانين. هذا المتقاعد صاحب حقّ وائتمن الدولة على مبالغ طائلة، وتأتي الموازنة المقترحة للعام 2019 لتسلبه أجزاء من معاشه من دون وجه حقّ (عبر وضع ضريبة دخل على المعاش التقاعدي تصل كحد وسطي إلى تسعة بالمئة من المعاش لكثير من المتقاعدين وتتخطّاه إلى معاش شهر أو أكثر عن كل سنة في حال البعض). فرضُ مثل هذه الضريبة يمسّ بمفاهيم الإتيكا، ويُربّي على الغدر والطعن. هناك عقد اجتماعي مع المتقاعدين وإنْ رغبت الدول في تغييره فلا يجوز لها بحكم الإتيكا ولا بحكم الدستور ولا القوانين الدّولية أن تمسّ به وإن رغبت بعقد جديد وأُسس جديدة فلا يجوز العمل بها مع مفعول رجعي.
4- إنّ الأسى الحقيقي حيال موازنة 2019 كما هي مقترحة هو مسألة الرّوح التي تسود صناعتها. أسىً حقيقي في ألا نرى فتح آفاق وخدمة للشباب ومستقبلهم في هكذا موازنة. إنّ المشكلة تكمن في روح العمل التي أنتجت هكذا موازنة ونخشى فعلاً أن تكون روحاً انهزاميّة أمام إرادة خارجيّة كانت ما كانت تلك الإرادة. فلا يجوز أن يغيب عن بال واضعي موازنة 2019 بالأمس، ولا عن بال المشرّعين لها غداً نقص الاهتمام بتحفيز المداخيل وغياب الاهتمام بالشباب. فلا تسمح أيّها المُشرّع غداً بموازنة لا أفق نهضويّ لها. لا تسمحوا أيها السيدات والسادة في مجلس النواب بموازنة لا تشجّع أهل الداخل والخارج على الاستثمار في لبنان. لا تسمحوا بموازنة لا تخدم الشباب الذين ينتظرون فرص العمل، وينتظرون القروض لمشاريع صغيرة أو لشراء مساكن تسمح لهم ببناء عائلة، وتزيل عنهم اليأس والإحباط وتُبعدهم عن اغتراب وهُم في الوطن، وتنقذهم من كابوس السّعي إلى مستقبلهم في دول الاغتراب، ومع الأسف بات الكابوس ذاك بمثابة الحلم لهم. لا تسمحوا بموازنة لا تشجّع المستثمرين على البقاء وعلى عودة من رحل منهم. لا تسمحوا بموازنة تربط مستقبل البلد بالاستدانة من البنك الدولي. لا تسمحوا بموازنة تضرب القطاع العام. لا تسمحوا بموازنة تؤخّر استمرار الجامعة اللبنانية في دورها الحضاري والأساسي. لا تسمحوا بموازنة تمسّ بكرامة المتقاعد. لا تسمحوا بموازنة لا تحمل الحياة والأمل إلى القلوب عبر حياة ثقافيّة هي القيمة الأساسيّة والمضافة للبلد. السيدات والسادة، إنْ هناك من رغبة في النهوض، فإنّ في جعبتنا الكثير من الأفكار الفاعلة والبنّاءة حتى في مسألة الدَّين العام، وكلّنا جهوزيّة.