حفل النصف الأوّل من الشهر الحالي بتطوّرات شديدة الإيجابيّة، على مستوى بيان الوضع المالي الذي ينشره مصرف لبنان. فارتفاع أسعار الذهب العالميّة، رفع قيمة احتياطات المصرف المركزي من المعدن الثمين إلى أعلى مستوياتها، وبقفزة لافتة مقارنة بالفترات السابقة. وخلال الفترة نفسها، حافظ المصرف المركزي على نمط مراكمة احتياطات العملة الصعبة، التي استمرّت بالارتفاع بوتيرة سريعة. وهذا ما انعكس سريعًا بانخفاض موازي وكبير، في البند الذي يعبّر عن الخسائر المتراكمة في ميزانيّة المصرف المركزي، والتي تمثّل حاليًا عنصر التأزّم الأساسي في القطاع المصرفي. أمّا حجم السيولة المتداولة بالليرة اللبنانيّة في السوق، فظلّت تحت السيطرة، من دون أن تشهد تذبذبات يمكن أن تؤثّر على سعر الصرف.
لم تختلف، خلال شهر آذار، أدوات الضبط التي يستخدمها مصرف لبنان، لزيادة الاحتياطات أو السيطرة على حجم الكتلة النقديّة المتداولة. فبند ودائع القطاع العام لدى المصرف المركزي استمرّ بالارتفاع، ما يعني أن امتصاص السيولة بالليرة والعملة الصعبة حصل عبر مراكمة الإيرادات العامّة في مصرف لبنان، بدل إنفاقها. هذه السياسة الماليّة التقشّفية الحادّة والقاسية، الموروثة من أيّام حكومة ميقاتي، لم تتغيّر خلال النصف الأوّل من شهر آذار، فيما يفترض أن يؤدّي اعتماد موازنة العام 2025 –بعد إقرارها بمرسوم- إلى تغيير ملحوظ في هذا النهج خلال الأشهر المقبلة.
بنود الاحتياطات
خلال النصف الأوّل من الشهر الحالي، قفزت قيمة احتياطات الذهب الموجودة في مصرف لبنان من 26.39 مليار دولار أميركي في بداية شهر آذار، إلى نحو 27.61 مليار دولار أميركي في نهايته، ما يعني أنّ المصرف سجّل زيادة –في قيمة هذه الاحتياطات- بقيمة 1.22 مليار دولار أميركي خلال فترة لم تتجاوز الـ 15 يومًا. وتجدر الإشارة إلى أنّ قيمة هذا البند لم تكن تتجاوز في منتصف تشرين الأوّل 2019، أي قبل حصول الانهيار المالي، حدود الـ 13.78 مليار دولار أميركي، ما يعني أن مصرف لبنان راكم خلال فترة الانهيار أرباحًا دفتريّة بقيمة 13.83 مليار دولار أميركي، جرّاء الزيادات المُحققة في قيمة هذا البند بالتحديد.
من المهم من التنبيه هنا إلى أن زيادة قيمة هذا البند ترتبط بعمليّة إعادة تقييم احتياطات الذهب التي يجريها مصرف لبنان كل 15 يومًا، في ضوء أسعار الذهب العالميّة. ومن المعلوم أنّ أسعار الذهب شهدت خلال النصف الأوّل من شهر آذار قفزات سريعة، بفعل عدم اليقين الناتج عن استعار الحروب التجاريّة، بعد القرارات التي اتخذها الرئيس الأميركي دونالد ترامب. كما تترقّب الأسواق اتجاه الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إلى سياسة تيسيريّة منخفضة الفوائد على المدى البعيد، وهو ما يزيد من جاذبيّة الذهب مقارنة بالأصول المنتجة للفوائد. في النتيجة، وبحلول يوم الجمعة الماضية، أي في نهاية النصف الأوّل من الشهر الحالي، قفز سعر أونصة الذهب إلى مستوى 3000 دولار أميركي للمرّة الأولى في التاريخ، وهو ما يفسّر الزيادة السريعة في بند احتياطات الذهب لدى المصرف المركزي.
من جهة أخرى، ارتفع حجم احتياطات العملات الأجنبيّة لدى مصرف لبنان خلال النصف الأوّل من شهر آذار من 10.53 مليار دولار أميركي في بداية شهر آذار، إلى 10.74 مليار دولار في منتصفه، ما يعني أنّ المصرف تمكن من زيادة هذه الاحتياطات بقرابة الـ 217 مليون دولار أميركي، خلال هذه الفترة. ومن المفيد التذكير أنّ حجم هذه الاحتياطات لم يكن يتجاوز مستوى الـ 8.57 مليار دولار عند انتهاء ولاية رياض سلامة، في أواخر شهر تمّوز 2023، ما يعني أن قيادة مصرف لبنان الحاليّة راكمت نحو 2.17 مليار دولار خلال هذه المدّة، بفعل سياسة مراكمة الاحتياطات التي انتهجتها منذ ذلك الوقت.
وبما أنّ الزيادة في بندي احتياطات العملة الصعبة والذهب باتت تلقائيًا مرتبطة بحجم خسائر مصرف لبنان المتراكمة، انخفض حجم هذه الخسائر –المسجّلة في بند إعادة التقييم- بنحو 1.18 مليار دولار أميركي خلال النصف الأوّل من شهر آذار. وهذا ما يفترض أن ينعكس على ملاءة الميزانيّة، وحجم الفجوة التي يفترض أن يتم التعامل معها في المستقبل، وإن لم يتم التصرّف باحتياطات الذهب.
الكتلة النقديّة وودائع القطاع العام
في الجانب الآخر من الميزانيّة، لم يسجّل بند السيولة المتداولة خارج مصرف لبنان –أي الكتلة النقديّة المتداولة في السوق بالليرة- أي تغيّرات ملحوظة، بل ظل عند مستوى 86.13 ترليون ليرة لبنانيّة في منتصف شهر آذار، بعد تسجيل زيادة هامشيّة بقيمة 1.08 ترليون ليرة خلال النصف الأوّل من الشهر. وبشكل عام، يمكن القول إن استقرار حجم هذا البند يعني تلقائيًا تمكين مصرف لبنان من السيطرة على توازنات العرض والطلب على الدولار في السوق الموازية، طالما أنّ الطلب مرتبط بحجم الليرات المتوفّرة لشراء الدولارات. وبطبيعة الحال، هذا ما سيساعد مصرف لبنان في الحفاظ على استقرار سعر صرف الليرة على المدى المنظور، محافظًا على سياسة تثبيت سعر الصرف المعتمدة حاليًا بشكلٍ ضمني.
أخيرًا، وكما أشرنا سابقًا، شهد بند ودائع القطاع العام لدى مصرف لبنان زيادة ملحوظة، إذ ارتفع من 6.37 مليار دولار في بداية شهر آذار إلى 6.49 مليار دولار في منتصفه، ما يعني أنّ المصرف المركزي امتصّ قرابة الـ 118.17 مليون دولار أميركي (بالليرة والعملات الأجنبيّة) من الإيرادات العامّة خلال النصف الأوّل من الشهر. وهذا ما يفسّر استمرار الارتفاع في بند احتياطات العملات الأجنبيّة، مع الحفاظ على الاستقرار في حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة اللبنانيّة.
التحدّي الأهم، سيرتبط بمدى قدرة مصرف لبنان على الاحتفاظ بنمط مراكمة احتياطات العملات الأجنبيّة، من دون ضخ ليرات إضافيّة في السوق عند شراء الدولار، بعد اعتماد موازنة 2025. إذ من الواضح أن هذه الموازنة ستمكّن الحكومة من زيادة الاعتمادات المرصودة للإدارات العامّة ومختلف أبواب الإنفاق، ما يعني الابتعاد –ولو نسبيًا- عن السياسة التقشفيّة الحادّة التي تم اعتمادها سابقًا، والتي ساهمت في مراكمة ودائع القطاع العام لدى مصرف لبنان.