عادة ما يسمع اللبنانيون عن اقتراحات تأتي من الخارج، لحل معضلة الكهرباء المزمنة، والتي تستنزف مالية الدولة، والتي كانت السبب الأكبر في تضخم الدين العام. لكن الاقتراحات سرعان ما تتبدد في النسيان أو التجاهل. إذ تطرح دول عديدة، لأهداف سياسية أو غير سياسية، المساعَدة لحلّ أزمة الكهرباء، وتقدم عروضاً بمختلف المستويات، تأتي من سوريا، وإيران، ومصر، وألمانيا، ولا تستقرّ إلا على تسويف ومماطلة السلطة السياسية، التي لا تجد الحلّ إلاّ ببواخر الطاقة التابعة لشركة كارادينيز التركية، بالتوازي مع شركات مقدّمي الخدمات المحليّة.
عروض متعددة
لا تتأخر سوريا في موافقتها على طلب لبنان زيادة حجم استجرار الطاقة منها، إن وُجِدَ الطلب. حتى أن استجرار الطاقة من سوريا لم يتوقف في عزّ الصدام السياسي، بين عدد من الأطراف اللبنانية والنظام السوري. ومع ذلك، تعرقل بعض الأطراف زيادة حجم الاستجرار. فالسلطة السياسية تربط تأمين الخدمات للمواطنين بسجالاتها السياسية، وليس بمواقفها المبدئية.
الإيرانيون يقدمون عروضهم الدائمة لحل أزمة بلدٍ، توازي مساحته مساحة بعض الأقاليم في إيران أو تصغر عن بعضها. ومع ذلك، الهاجس من زيادة النفوذ الإيراني في لبنان، يشكّل عائقاً أمام قبول العرض. علماً أن النفوذ الإيراني في لبنان لم يعد بحاجة إلى بوابة كهربائية. فمئات الآلاف من الصواريخ، ومئات الآلاف من اللبنانيين المستعدين للموت في سبيل النفوذ الإيراني، تجعل من المساعدة الكهربائية أمراً هامشياً، في مسألة توسيع النفوذ. ناهيك عن أن إيران رسمياً، هي دولة صديقة للبنان، وغير مصنّفة كعدو. والعلاقات الدبلوماسية بين البلدين مفتوحة ومستمرة.
الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، أعلن انضمام بلاده العام الماضي إلى نادي الدول، التي عرضت على الحكومة اللبنانية المساعدة في حل أزمة الكهرباء، عبر جر ما بين ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف ميغاوات، عن طريق الأردن وسوريا. وهي تزيد عن حاجة لبنان وتخفّض كلفة الكهرباء على المواطنين، لأن العرض في تلك اللحظة سيكون أكبر من الطلب. لكن لبنان فضّل اشتراط تحويل المساعدة المصرية من جر الكهرباء إلى بناء معامل. وهذا ما رفضته مصر، لأن كلفة المساعدة حينها سترتفع، وستطول مدة العمل، فتنتفي مميزات العرض الأساسي. كما تذرّع الجانب اللبناني بعدم تقديم مصر عرضها بشكل رسمي، يراعي البروتوكولات! ولم يحاول فتح الملف رسمياً مع مصر، لأن لبنان هو المستفيد الأكبر في حال كان هدف السلطة حل أزمة الكهرباء.
عروض المساعدة وصلت إلى القارة الأوروبية، إذ أعلنت شركة سيمنز الألمانية رسمياً في شهر تشرين الأول 2018، استعدادها للمساعدة في حل أزمة الكهرباء في لبنان، بعد لقاء جمع وفداً من الشركة مع وزير الطاقة السابق سيزار أبي خليل. لكن أبي خليل أدخَل الشركة الألمانية في دهاليز وزارته، وتشعّبات السجالات اللبنانية. فسلّط الضوء على ما اعتبره شائعات تطال العرض الألماني، منتقداً كل من قدّم معلومات، صحيحة أو مغلوطة، عن ماهيّة العرض، عوضاً عن تسليط الضوء على جوهر العرض، وعلى كيفية الاستفادة من الخبرة الألمانية. فكانت النتيجة أن وُضِعَ العرض في الأدراج.
الروس أيضاً
الروس أيضاً ليسوا بعيدين عن المساعدة، إذ يجري التداول حول عرض روسي قُدِّم إلى لبنان، يقضي ببناء معمل للتغذية بكهرباء 24/24 ومن دون تكبّد لبنان أي كلفة. إذ ستبني روسيا المعمل وستستثمره لسنوات عديدة، ثم تعيده إلى الدولة اللبنانية. لكن، حتى اللحظة، العرض ليس مؤكداً، “فالسفارة الروسية في لبنان لم تتبلّغ أي قرار رسمي، لكن نية المساعدة موجودة”، وفق ما تقوله مصادر في السفارة الروسية لـ”المدن”.
وتشير المصادر الروسية إلى أن “هناك اقتراحات لمشاريع تعاون بين روسيا ولبنان، لكن لا يوجد أي اتفاق رسمي حالياً. فالحكومة اللبنانية حكومة جديدة، ومن الممكن أنها تحتاج إلى معرفة إمكانياتها وحاجاتها، وتحتاج إلى دراسة بعض التفاصيل مع روسيا”.
خطة باسيل الفاشلة
أطلق وزير الطاقة الأسبق، ووزير الخارجية الحالي، جبران باسيل، في العام 2010 خطته لمعالجة أزمة الكهرباء المتجذّرة في لبنان، وأسماها “ورقة سياسة قطاع الكهرباء”. لم تنجح ورقته برفع التغذية إلى 24 ساعة يومياً، ولا حتى بتحسين وضع الكهرباء. وفي محاولة لترقيع الفشل، أتبَعَ باسيل ورقته بخطة “إنقاذية”، أطلقها في العام 2017، وزير الطاقة سيزار أبي خليل. وكانت الخطة تهدف إلى منع وقوع أي نقص في التغذية لصيف العام نفسه.
الورقة والخطة كانتا فصلاً في حكاية مشروع باسيل، الرامي إلى الاستفادة بقدر الإمكان من قطاع الكهرباء، بالتعاون الجزئي مع تيار المستقبل، وذلك تمهيداً للاستفادة اللاحقة من خصخصة القطاع بعد تدميره. والمسامير التي دُقَّت في نعش الكهرباء، كانت عبارة عن شركات مقدمي الخدمات وبواخر الطاقة. واللافت أن باقي القوى السياسية تمرر لباسيل مشاريعه، رغم إعلان معارضتها إعلامياً.
شهادة دولية
أما العروض الدولية، فيجابهها باسيل عبر أذرعه في وزارة الطاقة، في محاولة للحفاظ على مكتسباته من الشركات والبواخر، لأن القبول بأي عرض تفوق نتائجه نتائج خطة باسيل، يعني التسليم بفشل الخطة، وإلا لما احتاج لبنان إلى البديل. فضلاً عن أن العروض المقدمة ليس فيها إمكانية للاستفادة من هدر المال العام، على الأقل بالحجم الحاصل حالياً من خلال التعاقد مع الشركة التركية من دون إجراء مناقصات واضحة وشفافة. والتسليم بأي مشروع عابر للحدود، هو مدخل لكف يد باسيل وتياره عن وزارة الطاقة. فالمقارنة بين نتائج إدارة باسيل والنتائج الآتية من أي مشروع مستقبلي، ستكون واضحة للعيان، وستتحوّل إلى دعوة لباسيل بأن يحزم مشاريعه ويُنحّي مستشاريه ووزرائه وتياره عن الوزارة، لأن الحل حينها سيرتكز على عقد تبرمه الدولة اللبنانية مع دولة أو شركة أجنبية، ولا يتضمن حلولاً ووعوداً باسيلية.
وفي ظل تمسّك باسيل بخطته، تأتي شهادة الفشل مدمغة بختم دولي. فالبنك الدولي أعلن مراراً استفحال أزمة الكهرباء، ووصولها إلى خط اللاعودة، الذي تجب معه عملية الإصلاح الجذري والفوري للقطاع. وبالطبع، فإن البنك الدولي لا يقصد الاستمرار بخطة باسيل، لأنها لم تثمر على مدى أكثر من ثمانية أعوام. والشهادة الأخرى جاءت من مؤتمر سيدر الدولي، وهو المؤتمر الذي يشهد باسيل وتيار المستقبل بنزاهة مقرراته وخطته الإصلاحية. والمؤتمر أقر ضرورة وقف الدعم عن قطاع الكهرباء، نظراً لفظاعة ما وصل إليه، لأن الدعم يعني رمي أموالٍ في استثمار خاسر. وبالتالي، استمرار الاستثمار في الكهرباء وفق خطة باسيل وبواخره، هو استثمار فاشل.