فجأة، هبط علينا تعبير «شحّ الدولار» في سوق بيروت، مُقتحماً القاموس الاقتصادي للبنان، وباتَ حديث نشرات الاخبار والتقارير والمقابلات، وحديث السياسيين أيضاً.
يمكن القول انّ استخدام تعبير «شح الدولار» فيه من قلة البراءة بقدر ما فيه من الحقيقة. والشحّ يستعمل للمال للتعبير عن البخل عامة، واكثر استخداماته ترتبط بالشروط المناخية، وخاصة المياه والامطار. وشح الماء ظاهرة قد لا يكون الانسان والسياسة مسؤولين عنها، بل هي بالأصل أمر «رَبّاني» أو مرتبط بعمل الانسان بطريقة غير مباشرة، كالتغيّر المناخي الذي يتسبّب به إهمال الدول لحماية عناصر الطبيعة.
امّا شحّ الدولار فله حكاية اخرى، ليست البخل ولا الظروف الطبيعية ولا بالتأكيد «الربّانية». هذا الشحّ هو نتيجة سياسات مستهترة أوصلت الاقتصاد اللبناني الى ما يعانيه اليوم من فقدان للعملة الخضراء في بلد 70 في المئة من ودائعه محرّرة بالدولار الاميركي وباقي العملات الاجنبية.
يسأل الناس، غير الضليعين بالشؤون المالية، كيف يمكن ان يقيّد عرض الدولار في سوق بيروت في الوقت الذي يملك اللبنانيون 120 ملياراً من الودائع الدولارية في البنوك اللبنانية؟
يسأل التجّار والمورّدون الذين وقعوا بين سندان البيع بالليرة ومطرقة الشراء بالعملات الأجنبية، كيف يمكن إدارة اموالهم في بلد لم يتعوّد على وضع كهذا في تاريخه؟ ويسأل الجميع كيف يتوقف الدولار عن ان يكون شحيحاً حين نطلبه من الصيارفة وندفع ثمنه 3 في المئة الى 4 في المئة فوق السعر الرسمي؟
في الواقع انّ شحّ الدولار موجود فقط لدى المصارف وليس لدى الصرّافين، وهذا إن دلّ على شىء فهو يدلّ على بداية ظاهرة تَشكُّل سوقَين للقطع في بيروت. بمعنى آخر، يكون الدولار شحيحاً عند السعر الرسمي فقط، امّا اذا دفعت اكثر فيتوقف عن ان يكون شحيحاً.
اذاً، نحن أمام ظاهرة جديدة في سوق القطع تُعرف بالاسعار التمييزية exchange rate discrimination، وهي حالة وجدت لدى الدول التي استخدمت أسعاراً ثابتة للقطع (مثل الدول نصف الاشتراكية العربية في القرن الماضي)، وتؤدي هذه الظاهرة الى اعتماد ثلاثة أسعار للصرف: واحد للتجارة الخارجية (وهو الادنى)، وثان للتحويل الرسمي (هو أعلى من الاول)، أمّا الثالث فتحدده السوق الحرة بناء للعرض والطلب (أو ما يعرف بالسوق السوداء).
فأين نحن من هذا النموذج؟ نحن في تمييز ثنائي بين السوق الرسمية وسوق الصرّافين، وقد أشار حاكم مصرف لبنان، في أوائل ايلول، الى انه من الطبيعي ان يكون هناك فرق بين سعر صرف البنوك وسعر الصرف لدى الصرّافين في حدود 10 في المئة.
صحيح انّ الفارق لم يصل الى هذه النسبة، ولكن هذه نسبة مستهدفة او سقف تضعه السلطة النقدية لتمييز الاسعار، ولكن لا أحد يستطيع التأكيد هل سيتدخل مصرف لبنان للدفاع عن سعر الصرف لدى الصرّافين اذا تجاوز الفارق نسبة 10 في المئة.
يمكن لمَن يملك أرقاماً حول حجم الطلب على العملات الاجنبية لدى الصرّافين، مُقارنةً بالطلب لدى البنوك، أن يعيد احتِساب سعر صرف متوسط لليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، وهذا السعر اليوم يمكن ان يكون أيّ رقم أعلى من 1517 ولكن أدنى من 1560.
اذاً، نحن أمام نصف تحرير لسعر صرف الليرة اللبنانية، أو تحرير جزئي يؤسِّس لبقاء السوقَين، ولتوَسّع سوق الصرّافين كلما اشتدّت الأزمة النقدية.
وسوف تتعامل السلطة النقدية مع القطاعات المتضررة (محطات المحروقات وبائعو خطوط تعبئة الهاتف الخلوي وغيرهم) حالةً بِحالة، من دون الاضطرار الى إنتاج سياسة عامة موحّدة للصرف الأجنبي.