لم تفلح ازمة النزوح السوري من الافلات من مصيدة الخلافات السياسية على رغم تداعياتها القاسية والواضحة على الاقتصاد اللبناني، اذ انقسم اللبنانيون بين رافضين لعودتهم الفورية انطلاقاً من موقف المجتمع الدولي الذي يربُط عودتهم بالحل السياسي وإعادة الإعمار والعودة الطوعية والآمنة، وآخرين مصرين على تغليب المصلحة اللبنانية القائمة على التنسيق التقني مع الجانب السوري لتأمين عودة أمنة لهم بأسرع وقت ممكن.
قد يبدو مستغرباً اعتبار بعض الاطراف اللبنانية ان لبنان يملك حرية الاختيار في هذا الملف، وبإمكانه الإنتظار الى حين الوصول الى حل سياسي للأزمة السورية. فتداعيات ازمة النازحين التي كانت كارثية على الاقتصاد اللبناني تؤكد ان كل يوم تأخير في عودتهم الى ديارهم قد يحمل نتائج دراماتيكية للإقتصاد، لا سيما بعد ان اصبحت معظم المناطق السورية آمنة وبعد ان اكد وزير الدولة لشؤون النازحين صالح الغريب خلال مقابلة متلفزة عدم وجود اي تهديدات امنية او ما شابه لحياة العائدين.
ووفقاً للخبير الاستراتيجي والاقتصادي بروفسور جاسم عجاقة، “حمل وجود النازحين في لبنان تأثيرات سلبية كبيرة على الاقتصاد لا سيما ان عملية النزوح تمت دون مراعاة الشروط المتعارف عليها في الحياة الاقتصادية لهجرة او نزوح شعب ما الى بلد جديد. فإمكانية اي دولة لإستقبال نازحين تتطلب توافر 3 شروط اساسية، اولاً ان تكون الدولة تعاني من نقص ديموغرافي، ثانياً ان يكون اقتصادها قوي بحيث يتمكن من استيعاب اليد العاملة القادمة، وثالثاً ان لا يتخطى عدد الوافدين اليها سنوياً الـ 1% من عدد سكانها”.
وشدد على ان “استقبال لبنان للنزوح السوري بالشكل الذي حصل، اي دون اي يحترم للقواعد الاقتصادية المذكورة اعلاه، الحق اضراراً كبيرة بالإقتصاد”. وقال: “لبنان لا يستطيع ان يؤمن للنازحين فرص عمل، كما انه يعاني من اقتصاد ضعيف ولا يمكن ان يؤمن لهم حياة كريمة، اضافة الى استهلاكهم للبنى التحتية الخدماتية فيه، ومن هذا المنطلق، وان كان هناك مبررات اجتماعية وانسانية لإستقبال لبنان للنازحين السوريين، لكن اقتصادياً لا يمكننا الا التسليم بأن ازمة النزوح شكلت ضربة كبيرة للإقتصاد اللبناني على عدة صعد لا سيما على صعيد الاستثمارات حيث لاحظنا ان الاستثمارات الخليجية اختفت نتيجة بعض الخيارات السياسية التي اتخذت في لبنان خلال الازمة في سورية”.
ولفت عجاقة الى ان “مستوى الخدمات العامة مع وجود النازحين تراجع الى حد كبير لا سيما في ظل غياب الاستثمارات في القطاعات الخدماتية، وعلى رأسها الكهرباء والطرقات والنفايات، اضافة الى ما خلقته ازمة النزوح من تلوّث على الصعيد البيئي، فالنزوح كتلة بشرية هائلة وبطبيعة الحال وجود اي انسان في مكان ما يولد نفايات، ووجود النازحين خلق كمية نفايات كبيرة في حين لا يملك لبنان طريقه سليمة لمعالجة هذا الملف حتى الآن”.
واذ اشار عجاقة الى ” خسائر اضافية يتكبدها الاقتصاد نتيجة التهريب عبر الحدود البرية”، شدد على “ان لأزمة النازحين بُعد اجتماعي انساني لا يمكن التغاضي عنه ويتمثل بقضاء عدداً منهم نتيجة الصقيع والبرد”.
الخسائر المالية الهائلة
وفيما قدّرت دراسات سابقة الخسائر الاقتصادية لأزمة النزوح بين7.5 مليار دولار للفترة الممتدة بين عامي 2012 و2014، وتوقعت ارتفاع أعداد الفقراء في لبنان من جرّاء هذه الأزمة بـ170000 شخص إضافي (ممَّن يعيشون اليوم بأقلّ من 4 دولار في اليوم)، كما توقعت وصول معدل البطالة إلى 20 في المئة مع ازدياد عدد العاطلين عن العمل بـ324000 شخص معظمهم من الفئات الشبابية غير المتعلمة.
كشف عجاقة ان الخسائر المالية للأزمة السورية تخطت الـ20 مليار دولار منذ بدء الازمة في عام 2011، ولفت الى ان “هذه الخسائر نتجت عن تعطّل التصدير الى الاسواق الخارجية وتكبد الخزينة خسائر مالية نتيجة اضطرارها لتقديم الدعم للمزارعين والصناعيين والتجار المصدرين”. واعلن انه “يتم دفع سنوياً مبالغ مالية مباشرة تقارب المليار و724 مليون دولار موزعة على الشكل التالي: الصحة (188 مليون دولار)، الغذاء (550 مليون دولار)، التعليم (183 مليون دولار)، حاجات اساسية (149 مليون دولار)، المياه والصرف الصحي (202 مليون دولار)، المأوى (168 مليون دولار). واوضح انه “يضاف الى هذه الارقام 165 مليون دولار كمتطلبات للحكومة لتستطيع ادارة جهازها الاداري لتلاحق المسائل التي تعنى بها، وخسائر على الكهرباء والنفايات والبنى التحتية، ويتخطى مجموعها كما ذكرنا الـ20 مليار دولار”.
المجتمع الدولي .. لم يفِ بإلتزاماته للبنان
ويعمل المجتمع الدولي بشكل دائم على عودة ودعم النازحين السوريين على طريقته، اذ تعقد بإستمرار مؤتمرات دولية لدعمهم، حيث تجمع مليارات الدولارات لمساعدتهم وتلبية احتياجاتهم العاجلة، وتضع جملة من الأهداف تشمل تأمين المساعدات العاجلة والتعليم وفرص العمل والطبابة، بالإضافة إلى دعم استيعاب الدول المجاورة للاجئين. وفي حين يعمد البعض الى الحديث عن اتجاه بعض الاطراف اللبنانية لدعم بقاء النازحين بغية الاستفادة من فتات المساعدات الدولية، اعتبر عجاقة الى انه “بعكس ما يظن البعض، المجتمع الدولي لا يمنح لبنان اموالاً هائلة في اطار دعم النازحين، وفي الواقع لم يلتزم المجتمع الدولي ككل مع لبنان في هذا الاطار. الالتزامات الوحيدة التي تم الايفاء بها كانت على الصعيد التربوي، لكن بما يخص الامور الاخرى كانت استفادة الدولة اللبنانية ضئيلة لتستطيع تغطية الكلفة التي تدفعها”. وشدد على ان “الشق الاكثر اهمية، يتمثل بعدم الايفاء بالوعود التي اعطيت للبنان ومفادها اعطاء الافضلية للشركات اللبنانية عند شراء حاجات النازحين، فقد تبيّن، على سبيل المثال، انه في حين كان لبنان يعاني من ازمة تصريف موسم التفاح قامت المفوضية العليا للاجئين بإستيراد التفاح من ايطاليا”. وقال عجاقة: “بكل صدق لم يفِ المجتمع الدولي بإلتزاماته للبنان بما خص ملف النازحين، وهذا الامر سبّب له تردٍّ كبير جداً في وضعه المالي”.
ازمة النزوح “تبلبل” الحكومة
واضافة الى ما يعانيه الاقتصاد اللبناني من عبء النزوح الخطير، انسحب ثقل هذا الملف الى الحياة السياسية والاجواء الحكومية، فبعد ان خلقت زيارة وزير الدولة لشؤون النازحين صالح الغريب الى سوريا توتر حكومي، عاد هذا الملف الى الواجهة مع اقصاء الغريب عن المشاركة في الوفد اللبناني الى مؤتمر بروكسل الخاص بالنازحين.
ولفت عجاقة الى ان “المجتمع اللبناني انقسم بشكل عامودي منذ اللحظة الاولى لإندلاع الازمة السورية، الامر الذي لا يمكن للبنان التخلص منه بسهولة نظراً لإرتباطات خارجية تملي ما يجب فعله”. واوضح انه “بغض النظر عن انتماءات أي فريق، هناك قيود في ملف النازحين. ولكن ما هو مؤكد ان لبنان لا يمكنه الإستمرار بهذا الشكل في ملف النزوح السوري. والسبب بكل بساطة انه ينهش في هيكل الاقتصاد”. وشدد على “ضرورة عودة النازحين في ظروف ملؤها الامان والانسانية، بحيث يتم تأمين كل ما يلزم لهم من مأكل ومشرب وظروف تؤمن سلامة حياتهم”. واذ رأى انه “في ظل غياب افق لمعالجة مسألة النزوح وسط الانقسام اللبناني، لا بد من التواقف اذ ان ذلك قد يوفر حلاً للأزمة ويصب في مصلحة لبنان”.
“البقاء” .. الخيار الأخطر
ووفقاً لأرقام المفوضية العليا لشؤون اللاجئين الأممية، بلغ عدد السوريين بلبنان 997 ألف لاجئ حتى نهاية تشرين الثاني 2017، إضافة إلى لاجئين سوريين غير مسجلين لدى المفوضية. ويحمل هذا العدد الكبير اشارات خطيرة حول ازمات قد يخلقها بقاء النازحين في لبنان. واعتبر عجاقة “ان عدم امكانية عودة النازحين ستضاعف الاضرار على اقتصاد لبنان، وستخلق المزيد من المشاكل الاجتماعية التي قد تتحول فيما بعد الى مشاكل سياسية على الصعيد اللبناني”.
ورأى ان “مشاريع مؤتمر “سيدر” قد تخفّف من الحقن الإجتماعي لملف النازحين، على رغم تخوف البعض من “سيدر” اذ يرونه نوع من انواع التسهيلات لتوطين النازحين، الذين بإعتباري الشخصي سيقودهم حنينهم في يوم الايام الى منازلهم ووطنهم في حال توفّر شروط الامان”.