منذ مدة غير بعيدة، تمّ الاعلان عن قرب رفع الدعم عن المواد الاساسية التي لا زالت تدعمها الدولة من خلال مصرف لبنان. لقد تمّ تعليل ذلك بقرب نضوب الاحتياطيات الحرّة للبنك المركزي من العملات الصعبة، وذلك يعني ضمناً امراً آخر، يُضاف الى رفع الدعم، هو انعدام التوازن بين الدولار الرسمي ودولار المنصّة من ناحية، ودولار السوق السوداء من ناحية اخرى. اي انّ المراكز المالية المتحكّمة بالسوق السوداء سوف تصبح هي المصدر الاساس لعرض الدولار في البلد. بناءً عليه، يحاول البنك المركزي اليوم، عبر اجراءات جديدة، لا تخرج عن اطر السياسة نفسها المتبعة منذ العام الماضي، ان يمنع تفلّت السوق السوداء، من خلال «تنشيف» السيولة بالليرة اللبنانيه من الاسواق.
لكن «تنشيف» السيولة بالليرة من الاسواق سوف يعني شيئاً آخر وهو «تنشيف» مقابل لشرايين الاقتصاد من الدماء اللازمة لاستمرار عمله. لا دولار في البلاد، والآن لا ليرة، فكيف سيعمل الاقتصاد؟
لست بحاجه لتكون خبيراً اقتصادياً لتعلّم النتائج التالية:
اولاً: من المحتمل ان يبقى الدعم على المواد الاساسية (بصيغة او بغيرها)، ولكنك لن تجد ما يكفي من هذه المواد في الاسواق، لأنّ المستوردين والتجار وباقي الوحدات الاقتصادية، سيفقدون الحافز الاقتصادي للبيع، وعندها سندخل في سوق سوداء جديدة تؤمّن هذا الحافز. (طبعاً سيحصل ذلك في ظلّ الكثير من الفولكلور من قِبل دوريات قمع المخالفات السعرية)، ولكن هذا السوق سيستمر كما تستمر اليوم السوق السوداء للدولار الاميركي.
ثانياً: ستحوّل الدولة النقمة من ان تكون عليها وعلى سياساتها، الى نقمة على الصيادلة ومحطات المحروقات والافران والسوبرماركت، تماماً كما تحولت هذه النقمة في العام الماضي الى مدراء الفروع المصرفية وموظفيها.
ثالثاً: سوف نكون امام ظاهرة جديدة اسمها ليرة المصارف وليرة السوق، تماماً كما شاهدنا خلال عام دولار المصارف ودولار السوق، ينطبق ذلك بشكل خاص على تداول الشيكات بالليرة اللبنانية: بسبب الحاجة للسيولة النقدية، فإنّ الشيك بالليرة اللبنانية ستكون له قيمة مختلفة عن قيمة الليرة النقدية، اي اننا سننتقل من الـhaircut على الدولار الى الـ haircut على الليرة، بفعل قوة الامر الواقع، دون الاضطرار الى تشريع ذلك.
رابعاً: سنتأكّد من الآن فصاعداً انّ هناك سلطة نقدية خفية يديرها حيتان المال في السوق السوداء، تقابلها سلطة نقدية شرعية عاجزة وخزائنها فارغة خصوصاً في ظلّ استمرار الأزمة السياسية. سوف يحكم حيتان المال تسعير سوق الليرة، وسينزع سعر صرف الدولار في السوق السوداء الى اضطرابات اضافية، لأنّ ما سيحدّد سعر صرفه وقتها هو سوق العرض الاحتكاري، على عكس السوق الحرة للعملات (سوداء او غيرها) والتي تقوم على توازن العرض والطلب.
خامساً: سوف تستكمل عمليه شح الليرة هذه، مسار انتقاء الاقوى في لحظة غريزة البقاء بين المنتجين والتجار. واضافة الى كل المصالح التي اقفلت منذ عام حتى اليوم، يُخشى من توسّع ظاهرة اقفال المؤسسات، في غياب السيولة الضرورية لتمويل شرايين الدورة الاقتصادية.
سادساً: بانتظار وضوح آفاق المسار السياسي، هناك اموال دولارية بيضاء اختزنها القطاع المنزلي، تحسباً لليوم الاسود، ستكون عرضة للتسييل بسبب شح الليرة، بما سيترك هذا القطاع مكشوفاً على المجهول، في ظل اوضاع اقتصادية وسياسية تُنذر بالاسوأ.