في حزيران الفائت وضع المدير العامّ لشركة “توتال-لبنان” رومان دو لامارتينير الرئيس نجيب ميقاتي في صورة خارطة طريق حفر البئر الاستكشافية في الرقعة النفطية رقم 9 ضمن حقل قانا، مبلّغاً السلطات اللبنانية رسمياً عبر حكومة تصريف الأعمال وصول منصّة الحفر TransOcean Barents إلى المياه اللبنانية في آب.
لم يُشكّل جرس الإنذار بدخول لبنان جدّيّاً مدار الاستكشافات النفطية بـ “حمولة” من التوقّعات الإيجابية أكبر من تلك التي رافقت أعمال الحفر في البلوك رقم 4، أيّ محفّز لقوى الداخل لتوفير حاضنة سياسية – ماليّة – نقدية آمنة تستقبل منصّة الاستكشاف العملاقة. لا بل زاد الأمر سوءاً. وأفظع ما فيه أنّ الجيش المكلّف أمنيّاً بمواكبة هذه الورشة النفطية بالحدّ الأدنى من التجهيزات المتاحة له قد يجد نفسه من دون قائد جيش أصيل مع خلاف على “الوكيل” أيضاً.
تكرّرت التأكيدات أخيراً لوجود بئر في الرقعة 9 غنيّة بكميّات تجارية من الغاز، وآخرها جاء على لسان وزير الطاقة وليد فياض الذي توقّع، نقلاً عن شركات تحالف “توتال وإيني وقطر إينرجي”، إنجاز الحفر بين 90 إلى 100 يوم، أي بحلول نهاية العام.
انتهت عملياً أعمال الحفر في بئر “بنرياتش” في بحر الشمال البريطاني التي تقوم بها شركة “ترانس أوشن”، بناءً على إعلان صادر عن شركة “كيستوس” شريكة “توتال إنرجي” في 19 حزيران الماضي، من دون اكتشاف كميّات غاز تجارية، وهذا ما سيسهّل وصولها في وقت أسرع إلى المياه اللبنانية.
15 آب الوصول
تستعدّ “الحفّارة” للوصول إلى لبنان بحلول 15 آب (يستغرق الإبحار من بحر الشمال البريطاني نحو أربعة أسابيع)، فيما يُتوقّع أن تباشر مهامّها بعد نحو شهر من وصولها من أجل إتمام التحضيرات اللوجستية والتقنية.
لكن إضافة إلى المعطى السياسي الكارثي والتناقض المفجعِ بين بحرٍ مفتوح على احتمال استثمارات بمليارات الدولارات في حال اكتشاف كميّات تجارية من الغاز والنفط، وبين برّ مفتوح على المجهول ومزيد من الفوضى والفراغ الفاقع في أعلى المناصب وفقدان القدرة على القيادة السياسية، تسجّل مصادر متابعة جملة ملاحظات تواكب وصول منصّة الحفر إلى المياه اللبنانية.
بحجّة استعجال “كونسورتيوم” التنقيب عن النفط والدولة اللبنانية وصول منصّة الحفر خسر لبنان فرصة تركيز القاعدة اللوجستية بكامل خدماتها وأنشطتها في مرفأ بيروت، فيما ستستفيد “توتال” من خدمات القاعدة اللوجستية المتمركزة في قبرص التي ستحصل منها الحفّارة على معظم مستلزماتها (الإسمنت، معدّات النقل، الإمدادات..). والحجّة المعلنة: ضيق الوقت الذي لا يسمح بإنشاء قاعدة لوجستية متكاملة في مرفأ بيروت من جانب “توتال”.
يفتح هذا الواقع باب التساؤل في حال اكتشاف غاز في الرقعة رقم 9: هل سيُبقي المُشغّل “توتال” على القاعدة اللوجستية للأنشطة البترولية في قبرص بدلاً من لبنان، وهو ما سيُعتبر سابقة يمكن البناء عليها لتكرارها، خاصة في مرحلتَي التطوير والإنتاج؟
سيضيّع هذا الواقع فرصاً ثمينة على لبنان لناحية تشغيل الشركات واليد العاملة ودخوله مدار “العمل النفطي الميداني”، عدا عن تخلّي لبنان عن حقّ سياديّ أعطاه إيّاه القانون الدولي، وهو مراقبة الأشخاص وكلّ التجهيزات والمعدّات والحاجات التي تنتقل من وإلى المنصّة.
النقاش حول التطوير والانتاج
من جهة أخرى، سيعيد الحفر والاكتشاف النقاش مجدّداً في مسار التطوير والإنتاج، وهي الإشكالية التي لم تُحسَم نهائياً في اتفاق الترسيم البحري مع العدوّ الإسرائيلي. فأيّ اكتشاف في حقل قانا قد يمتدّ جنوب الخط 23 سيستدعي استنفاراً إسرائيلياً قد يوقف التطوير والإنتاج في حال لم تحصل تل أبيب على كامل الحقّ الذي سوف تدّعيه في هذا الحقل، والمكرّس بينها وبين شركة “توتال” بموجب اتفاق المبادئ الذي وُقّع بينهما بعد اتفاق الترسيم بتاريخ 27 تشرين الأول 2022 بين لبنان وإسرائيل.
في الاتفاق المذكور يوجد نصّ واضح وصريح بعدم إمكانية تطوير الحقل في حال عدم الاتفاق بين المشغّل وإسرائيل على الحصّة التي سوف تدّعيها بهذا الخصوص.
في المقابل لا يوجد أيّ بند في اتفاق الترسيم يثبّت حصّة لبنان كاملة في حقل قانا الذي ستطالب إسرائيل بحصّة فيه. وسيضع هذا المستجِدّ لبنان أمام إشكالية ستضيّع عليه جهد الاستعجال الحالي.
أمّا لجهة “الأمن والسلامة”، فالمؤتمر الأوّل من نوعه في لبنان الذي نظّمه الجيش نهاية أيار الماضي بعنوان “أمن الحدود والمنشآت الحيوية” بحضور خبراء دوليين، أضاء على سبل ضمان أمن وسلامة منشآت الغاز والنفط في المنطقة الاقتصادية الخالصة البعيدة عن الشاطئ، والحفاظ على البيئة البحرية، وعلى عدّة نقاط يجب توضيحها، ومنها: تحديد واجبات ومسؤوليّات الإدارات المعنيّة في الدولة اللبنانية في سياق تأمين مستلزمات مسار الحفر والاستخراج في المياه البحرية اللبنانية.
حتى الآن لا جواب بالقانون عمّن يتحمّل مسؤولية أمن المنشآت تجاه أيّ عمل تخريبي خارجي أو حادث كبير قد يحصل، فيما لا يُعرف هل يقدّم الاتّفاق الموقّع بين الدولة اللبنانية و”توتال إنرجين” إحاطة كاملة لتساؤلات تطال الأمن والتأمين، إضافة إلى تحديد دور الجيش ذي القدرات المحدودة، ومدى أهميّة إنشاء وتجهيز مركز للبحث والإنقاذ في لبنان.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ هناك اتفاقية للتعاون في مجال البحث والإنقاذ بين لبنان وقبرص موضوعة في الجارور منذ عام 2008، ولم تُقرّ لغاية تاريخه بقانون، فيما لبنان بأمسّ الحاجة إلى اتفاقية كهذه لأنّ حقل قانا المحتمل يقع ضمن بقعة المسؤولية لقبرص في مجال البحث والإنقاذ، وهذا يستدعي أعلى درجات التنسيق التي لا يمكن توفيرها إلا ضمن اتفاقية مماثلة.
على صعيد آخر، أثار إعلان الوزير فياض تمديد مهلة تقديم الطلبات لدورة التراخيص الثانية في البلوكات الثمانية الباقية إلى 2/10/2023 استغراب جهات معنيّة بملفّ النفط والغاز. إذ يؤكّد الخبير النفطي قاسم غريب أنّ “كلّ الآبار التي حُفِرت في شمال فلسطين المحتلّة المحاذية لحقل قانا المُحتمل أثمرت عن اكتشافات تجاريّة، كما جميع آبار كاريش بشطرَيه الرئيسي والشمالي”.
يضيف غريب: “هذا يقوّي احتمالات الاكتشاف التجاري في البئر الأولى في حقل قانا المُحتمل، وهو ما يجعل من قرار تأجيل مهلة تقديم العروض لدورة التراخيص الثانية لغاية 2/10/2023، بدل تأجيلها إلى ما بعد الحفر والتقويم، قراراً يُجافي مصلحة لبنان، وذلك أنّ الاكتشاف التجاري سيؤثّر إيجاباً على الشروط التجاريّة في البلوكات الثمانية الباقية 1، 2، 3، 5، 6، 7، 8 و10”.
يرى غريب أنّه “كان من الأفضل التمديد لشهرين إضافيين. فالحفر سيبدأ في آب، ومن المُستبعد أن ينتهي وتصدر نتائج التقويم في الثاني من تشرين الأوّل”.