تُعتبر الإكتشافات البتروليّة نقطة تحوّل مفصليّة في تاريخ ومستقبل الدولة اللبنانيّة على مختلف الأصعدة. فالنفط والغاز ليس فقط مسألة جيولوجيّة وحسب، بل يشكّل أيضاً مسألة سياسيّة مرتبطة بأداء الدولة اللبنانيّة وصياغتها للسياسات الداخليّة من جهة، كما وبشبكة من العلاقات الإقليميّة والدوليّة من جهة أخرى.
بحكم موقعه الاستراتيجي، ووقوعه ضمن منطقة مشتعلة بالأزمات والنزاعات المسلّحة تخضع لتغيّرات مستمرّة في موازين القوى الإقليميّة والدوليّة، يواجه لبنان تحديّات كبيرة تطغى بنفسها على مسار إستثمار الثروة البترولية في مياهه البحريّة حاليًّا وفي برّه مستقبلًا.
الإشكاليّة الأساسيّة في هذا المجال تتمثل في السؤال التالي: هل سينجح لبنان بتخطّي مختلف العقبات الداخليّة والخارجيّة وإنقاذ ثروته البتروليّة من الضياع؟
البترول سلعة إستراتيجيّة
بإعتباره المصدر الرئيسي للطاقة وعصب الإقتصاد الدولي، وفي ما يختص بـ «جيوبوليتيك النفط والغاز»، فإنّ للموارد الطبيعية بشكل عام ولمصادر الطاقة بشكل خاص، إرتباطاً وثيقاً بالمحيط الجغرافي الذي يلعب دوراً رئيسياً في خلق الفرص أو حتى المخاطر التي من المتوقع أن يمنحها للبلد صاحب هذه الموارد. كما تؤدي السياسات البترولية دوراً لا يستهان به في تحديد شكل ومضمون السياسات العالمية وما يرتبط بها من صياغة الإستراتيجيات الكبرى على الصعيد الدولي، بحيث يشكّل الصراع على منابع الطاقة وممراتها أحد أهم أوجه الصراعات الدوليّة الحديثة.
لذلك، فإنّ هذه الأهميّة الإستراتيجية للموارد البترولية تجعل من لبنان ومنطقة شرق المتوسط مركز اهتمام دولي وإقليمي نتيجة الإكتشافات المبشّرة، خصوصاً في ظل تنامي الطلب على مصادر الطاقة، لا سيما على الغاز الطبيعي، نظراً لمنافعه المتعددة إقتصادياً وبيئياً مقارنة بمصادر الطاقة الأخرى. وذلك على الرغم من التوجّه نحو صياغة السياسات والإستراتيجيات التي تنظّم التحوّل العالمي نحو اعتماد الطاقة البديلة والنظيفة، فهذا التوجّه يحتاج إلى عشرات السنوات لكي يتحقق بشكل كامل وشامل.
وضع إقليمي مضطرب
أعاد موضوع اكتشاف الثروة البتروليّة في شرق البحر المتوسّط وبخاصّة في البحر اللبناني، مشكلة الحدود البحريّة إلى الواجهة من جديد، بحيث يثبت الواقع الدولي أنّ الخلافات على الحدود كانت وما زالت تشكّل سبباً رئيسيًّا في نشوء النزاعات بين الدول. ففي ما خصّ لبنان، لم تنتهِ المشكلة مع ترسيم حدوده البحرية الجنوبية مع ما تحمله من ملاحظات، بحيث تظهر إشكاليّة ترسيم كامل الحدود البحريّة والبريّة على حدّ سواء كأحد التحدّيات الكبرى الذي يطغى على الواقع اللبناني المتأرجح بين اتجاهات تميل إلى الانخراط بسياسة المحاور من جهة، واتجاهات تطالب بالحياد وتطبيق القرارات الدوليّة من جهة أخرى. هذا ما يعطي النزاع طابعاً دولياً بإمتياز، ويضع لبنان أمام تحدٍ من أكبر التحدّيات التي تواجهه في العصر الحديث سياسياً وأمنياً وإقتصادياً.
مسار القطاع متأخّر مقارنة بالدول المجاورة التي سبقت لبنان بمراحل متقدّمة في استغلال ثرواتها البتروليّة، وبدأت تحجز مواقع لها في الأسواق الدولية، وذلك على الرغم من التوترات الأمنية التي تشهدها المنطقة المقبلة على تسويات كبرى.
كيف ستؤثر هذه التسويات على قطاع الطاقة في لبنان والمنطقة؟ وهل ستكون الشركات البترولية العالمية أداة لتنفيذ السياسات الخارجية لدولها في هذا القطاع، في ظل تبدّل وتفاوت المصالح الإقليمية والدولية لجهة تقسيم حصصها من مقدرات هذه الموارد، كما وفي ظل مخاوف أطراف خارجية عدّة من تحول لبنان إلى بلد نفطي؟
أزمة نظام وإدارة
في هذا السياق، لا بدّ من تسليط الضوء على أداء الدولة اللبنانيّة ودورها في إدارة هذا القطاع، إذ يتبيّن بالنتيجة أنّ الدولة اللبنانيّة تعاني من قدرة محدودة على صناعة السياسات العامّة، خصوصاً أنّ طبيعة النظام السياسي تساهم في أغلب الأحيان بعرقلة مسار القطاع البترولي نتيجة لتركيبة لبنان السياسيّة والطائفيّة المعقّدة، بحيث تخضع مختلف النقاشات والمباحثات لتجاذبات كبيرة قد تصل إلى حدّ الإنقسام حيال الكثير من الخطوات المتصلة بهذا الملف. لماذا الحديث عن هذه الأمور؟ ليس انتقاداً للنظام السياسي القائم أكثر ممّا هو توصيف دقيق لجذور مشكلة أسّست لتتابُع الأزمات، وإفقاد النظام اللبناني عافيته وسلامته، في ظل الشلل المؤسساتي الذي تشهده البلاد، والإنقسام العامودي بين المكوّنات السياسيّة الأساسيّة حول القضايا الجوهريّة في كثير من الأحيان. فكيف بالأحرى إذا ما تعلّق الأمر بقطاع حيوي كالنفط، له أهميّة إستراتيجيّة على الصعيدين الداخلي والخارجي؟
فهل ستقدّم الدولة اللبنانيّة نموذجاً جديداً في إدارة هذا القطاع الحيوي الذي يحتاج إلى تطوير سياسات وطنيّة طويلة الأمد؟
الحوكمة والإدارة الرشيدة
على الرغم من صعوبة الحكم الرشيد في لبنان، إلّا أنّه أمر مطلوب في ما يختص بالقطاع البترولي، وإلّا تبدّدت الثروة. الحوكمة ترتكز على مفهومي الشفافيّة والمساءلة. من هذا المنطلق، يحدّد نظام الحوكمة جميع السياسات المتصلة بأي قطاع ومن بينه القطاع النفطي، فالإدارة الرشيدة للقطاع البترولي تبدأ من رأس الهرم أي من المجلس النيابي، وتمر بعدها بمجلس الوزراء، وصولاً إلى الوزير المختص ومن بعده إلى هيئة إدارة قطاع البترول، كما وتلتزم بإدارة صالحة وشفافة للعائدات المالية المتأتية من استثمار هذه الموارد.
كل تلك المحدّدات، تشكّل تحدّياً كبيراً يواجه أداء الدولة اللبنانية في الملف، بحيث يجب أن تخدم بالدرجة الأولى والأخيرة مصالح اللبنانيّين وحاجاتهم ومستقبل أجيالهم الحاليّة واللاحقة. فكيف سيستطيع لبنان إدارة ثروته البترولية وحمايتها من الفساد؟ وما هي الإجراءات والمبادئ التي سيتبعها في استثمار العائدات لجهة الحوكمة والشفافيّة والمساءلة؟
النفط في البر
يشهد موضوع النفط في البر اللبناني جموداً وتقصيراً واضحاً من قبل الدولة اللبنانية في مقاربتها لهذا الملف الحيوي من مختلف الجهات والاعتبارات. بحيث يبقى هذا الملف أسير الأدراج المغلقة. فحتى الآن لم يتمّ تأمين وصياغة التنظيم القانوني المناسب واللازم لإطلاق هذا القطاع، فضلاً عن أنّه يفتقر إلى الدراسات اللازمة لجهة إجراء المسوحات والتحاليل الضرورية… فإلى متى ستبقى الأمور عالقة؟
إستكمال مسار الإستثمار
بغض النظر عن الضغوطات المختلفة التي يشهدها قطاع النفط والغاز في لبنان، وبغض النظر عن تجربة البلوكين 4 و9 والإشكالية التي تركها مؤخّراً تأخّر شركة «توتال» المستغرب في تقديم تقريرها حول نتائج الحفر في البلوك رقم 9 إلى الدولة اللبنانية على الرغم من انتهاء المهلة الزمنية القانونية المحدّدة لذلك، إلّا أنّ الأمور أصبحت واضحة لجهة ضرورة إعادة إطلاق عجلة هذا القطاع الحيوي في أسرع وقت ممكن.
الأمر الذي يفرض على الدولة اللبنانيّة تحمّل مسؤولياتها السياديّة في هذا المجال، من خلال إتخاذ الإجراءات اللازمة لمعالجة العقبات الحاليّة داخلياً وخارجياً التي تؤخّر عمليّة إستثمار الموارد واعتبار النفط والغاز قضية أمن قومي لما لها من تداعيات إيجابيّة على الواقع المؤسف الذي يعيشه لبنان والمنطقة.