إقرار رواتب القطاع العام: “حيلة” إعطاء أموال بلا قيمة

على عجلٍ تخطَّى النواب الموانع القانونية التي تمنع عقد جلسة تشريعية في ظل الفراغ الرئاسي. إذ على مجلس النواب، قانوناً، عقد جلسات متتالية لانتخاب رئيس للجمهورية، قبل أي شيء آخر. لكن هذه المرّة “مصلحة الدولية العليا تفرض إقرار المعاشات، أي لقمة عيش 400 ألف عائلة، والتي لا يجب أن تتحمَّل وِزرَ الخلافات السياسية والتفسيرات الدستورية المختلفة”، على حدّ قول النائب إبراهيم كنعان. وعليه، التأم النواب سريعاً في جلسة يوم الإثنين 19 حزيران، وأقرّوا فتح اعتمادات إضافية لتمويل رواتب ومستحقات موظّفي القطاع العام والمتقاعدين وأساتذة الجامعة اللبنانية، بعد أن كانت المستحقات المنتظرة عن الأشهر المقبلة، مهددة بفعل عدم توفُّر الاعتمادات اللازمة في وزارة المالية.

القاعدة الإثني عشرية وغياب الموازنة

بدأت أزمة الرواتب حين أعلنت وزارة المالية عدم توفُّر الاعتمادات لتمويل دفع الرواتب بعد شهر حزيران. فالتمويل الذي لديها خاضع للقاعدة الإثني عشرية التي تصرف الدولة وفقها في ظل غياب الموازنة. ولسدّ الفجوة، أقرَّ مجلس النواب فتح اعتمادات إضافية بنحو 37000 مليار و400 مليون ليرة لتغطية المساعدة المؤقّتة للعاملين في القطاع العام والمتقاعدين، فضلاً عن زيادة بدل النقل للموظفين. وكذلك، تم فتح اعتماد بقيمة 265 مليار ليرة لتغطية نفقات بدل نقل لأساتذة الجامعة اللبنانية عن العام الجامعي 2022-2023.

الإقرار الآتي بسبب غياب موازنة العام 2023، تشوبه موانع حَمَلها 29 نائباً، رفضوا جلسة التشريع، واعتبروا أن ما يحصل “يعيدنا إلى المنطق نفسه الذي بدأ منذ اقرار سلسلة الرتب والرواتب غير المدروسة، التي سرّعت الانهيار، مروراً بالزيادات الأخيرة العشوائية غير الممولة على رواتب وأجور القطاع العام، والتي أدت إلى تضخّم كانت نتيجته تدني القيمة الشرائية لهذه الرواتب إلى أقل من النصف. هذا النهج الذي يفتقد إلى الجدية وإلى رؤية وخطة شاملة، لا يمكنه معالجة المشاكل، خصوصاً في غياب مصادر تمويل فعلية لهذه الاعتمادات، بل سيؤدي إلى تضخم جديد يقلص قيمة الزيادة”.

سدّ الثغرة الأولى المتمثّلة بعدم وجود موازنة، تكفّلَ به رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، عبر إعلانه خلال جلسة التشريع، أن “موازنة الـ2023 جاهزة، وسندعو إلى جلسات حكومية متتالية لإقرارها”. وسيسبق ذلك إرسال وزارة المالية “المشروع النهائي للموازنة إلى الحكومة لمناقشتها، قبل نهاية شهر حزيران”. ليبقى السجال حول دستورية الجلسة التشريعية قائماً بلا حلّ.

“احتيال” على الجمهور

سيقبض الموظّفون رواتبهم ومستحقاتهم. هي في الشكل تصل إلى 7 معاشات شهرية، أي رُزِم من الليرات التي يطبعها مصرف لبنان، مُفقِداً إيّاها قدرتها الشرائية، بعد تعزيز قوّة منصة صيرفة ودولار السوق على امتصاص قيمة أي زيادة. فارتفاع دولار المنصة يمتصّ قيمة الرواتب بعد تحويلها إلى دولار، ويتكفَّل دولار السوق في تقليص حجم الشراء المفترض لتلك الرواتب. ولذلك، تشير الأستاذة المتقاعدة من التعليم الثانوي، وعضوة التيار النقابي المستقل، بهية بعلبكي، إلى أن “الزيادة التي يظنّها الجمهور مرتفعة، هي أوراق مالية كثيرة لكنّها بلا قيمة. وما يقبضه المتقاعدون عن 12 شهراً، لا يساوي معاشاً واحداً أو حتى 3 معاشات، تبعاً لتغيُّر سعر دولار المنصّة”.

للإقرار السريع مبرّراته التي تتّصل بـ”الاحتيال على الخارج أيضاً”. وحسب ما تقوله بعلبكي لـ”المدن”، فإن الإجراءات الإصلاحية المطلوبة من صندوق النقد الدولي، لا يمكن تفاديها “فتلجأ السلطة إلى إجراءات احتيالية، كمثل إقرارها جملة من الرواتب والمستحقات التي لا تدخل في صلب الراتب، وتالياً لا تُحتَسَب في المعاش التقاعدي، فتوهم بذلك المجتمع الدولي بأنها تقوم بالإصلاحات وتقدِّم المساعدات الاجتماعية، لكنها بلا قيمة”.

ما آلت إليه أوضاع البلاد في ظل الأزمة الاقتصادية، ليس سهلاً. وفي ظل غياب الإجراءات الإصلاحية الفعلية، تتورَّط السلطة السياسية بالانزلاق من قعر إلى آخر “بعد أن كنّا نظنّ أن هناك قعراً واحداً سننزلق إليه، لكننا نكتشف بالتتالي، وجود قعر خلف قعر”. وهذا الواقع، يستوجب تسريع الإصلاحات بدءاً بإقرار موازنة العام 2023، وإن كانت إصلاحاً شكلياً. وبالتوازي، تسريع انتخاب رئيس للجمهورية لينتظم عمل المؤسسات.

وفي السياق نفسه، تحذّر بعلبكي من “استغلال الإصلاحات والتذرُّع بمطالب صندوق النقد، لنسف القطاع العام”. وترى أن السلطة السياسية تُبدِع في نسف القطاع انطلاقاً من قمع الحريات فيه، وهو ما يحصل مع بعض الأساتذة الذين لا ينتمون لأحزاب وكتل سياسية في السلطة. وفي الوقت نفسه، تشجّع السلطة التعاقد الوظيفي عبر بدعة بدل الإنتاجية التي أقرَّت للموظفين الذين يحضرون إلى مراكز العمل. فماذا عن الأساتذة الذين لا عمل لديهم خلال العطلة الصيفية؟ ألا يُحتَسَبون كموظّفين ويستحقون بلد الإنتاجية؟”.

لا إجابات عمّا يطرحه موظّفو الدولة، سوى أن السلطة التشريعية تُمَرِّر الوقت، وتلاقيها السلطة التنفيذية بوعود إقرار الموازنة وتسيير عمل المرفق العام. ومَع أن ما أُقِرَّ اليوم هو “حق للموظّفين والمتقاعدين”، إلاّ أنه “أقل من المستوى المطلوب، لأنه فتات”.

السياسيون أعطوا وهُم يأخذون. يطبعون الأوراق المالية ويسحبون قيمتها. ومَكسَبَهم في ذلك، تصفيق جمهورهم، ومنهم غالبية موظّفي ومتقاعدي القطاع العام في كل الإدارات والمرافق والمؤسسات. فهؤلاء يرفعون الصوت قبل القبض، ويصفّقون عن إقرار الاعتمادات، ويعتبرونها إنجازاً تداركته أحزابهم سريعاً. أما إفقاد الرواتب قدرتها الشرائية، فهو من صُنعِ “الدولة”.

مصدرالمدن - خضر حسان
المادة السابقةالفنادق الخضراء تعزز مكاسب صناعة السياحة في الإمارات
المقالة القادمةديوان المحاسبة الفرنسي يشكِّك بمصير مساعدات بلاده للبنان