قبل أشهر، طُرحت في الدوائر المغلقة داخل مصرف لبنان فكرة الترخيص لمجموعة صغيرة من المصارف الجديدة، القادرة على استيعاب السيولة الموجودة في المنازل، وعلى منح القطاعات المنتجة التسليفات التي تحتاجها.
وفي تلك النقاشات، دخل المعنيون بتفاصيل الفكرة: الضمانات المطلوبة لاستقطاب الاستثمارات في المصارف الجديدة، ونموذج التمويل الذي ستعتمد عليه، وما يلزم من قرارات لتنظيم عمل المصارف الجديدة، وعدم إغراقها في حفرة الخسائر الموجودة. في ذلك الوقت، تساءل البعض عن جديّة هذه النقاشات، وعن ما إذا كانت مجرّد مناورات وهميّة قام بها الحاكم، للضغط على إدارات “مصارف الزومبي” الموجودة حاليًا، وفرض تنازلات معيّنة عليها.
نهاية ابتزاز “مصارف الزومبي”
الأكيد، هو أن “مصارف الزومبي” لا تملك حتمًا المصلحة في ذلك. وأن نفوذ اللوبي المصرفي قادر على فرملة الفكرة والإطاحة بها في مهدها. فدخول مصارف نظيفة على الخط، لن يعني سوى خلق نظام مالي موازٍ صحّي وجديد، ما سيسحب من القطاع المصرفي القديم ورقة ابتزاز اللبنانيين بكونه معبرهم الوحيد إلى النظام المالي العالمي (كما جرى خلال الإضرابات المصرفيّة المتكررة).
كما ستُبطل الفكرة تُهمة “ضرب القطاع المصرفي”، التي تُشهر في وجه كل من يناوئ مصالح المصارف القائمة حاليًا، طالما أن القطاع المصرفي الحقيقي والكفوء بات موجودًا، بمعزل عن المصارف الفاشلة والممتلئة بالخسائر. أمّا الأهم، فهو أن الفكرة قادرة على تقليم أظافر المصارف الفاشلة، والحد من سطوتها في عرقلة الحلول الماليّة المطلوبة، بمجرّد إنهاء احتكارها لساحة الخدمات الماليّة المحليّة.
تسهيل إعادة هيكلة القطاع المصرفي القديم
لكن ماذا عن الودائع؟ ألن يمهّد ذلك لفكرة عفى الله عن ما مضى؟
ليس بالضرورة. في واقع الأمر، أكثر ما يضمن حقوق المودعين هو مسار واضح لتوزيع خسائر النظام المصرفي القديم، مع تصفية المصارف المفلسة وغير القادرة على الاستمرار، والاستفادة من كل سنت من موجوداتها -حتّى الرمق الأخير- بما فيها الموجودات العقاريّة والأصول الاستثماريّة في الخارج.
لن يشمل هذا الأمر المصارف القديمة القادرة على إعادة الرسملة. لكن وجود قطاع مصرفي حي ومنتعش، وقادر على خدمة الاقتصاد، بمعزل عن مصير “مصارف الزومبي”، هو وحده ما سيسمح بالذهاب إلى أبعد ما يمكن، وبأقسى ما يمكن على الرساميل والموجودات المتبقية، خلال مرحلة التصفية وتوزيع الخسائر.
وبخلاف ما يعتقد البعض، أو بخلاف ما سوّقته جمعيّة المصارف في الإعلام، توزيع الخسائر والتصفية ليسا شطبًا أعمى وعشوائي للودائع. بل وعلى العكس تمامًا: على هذا المسار أن يحدد الفئات التي تحمل أولى شرائح الخسارة، وتلك التي سيُقتص من أرباحها السابقة، وتلك التي حوّلت استنسابيًا أو جنت أرباحًا في مراحل الهندسات، أو تلك التي لا تملك القدرة على إثبات مصدر ودائعها..إلخ.
لكن أهم ما في الموضوع، هو أنّ المصارف السليمة والجديدة ستكون قادرة على شراء ما تبقى من الموجودات أو الأصول الاستثماريّة الخاصّة بالمصارف المتعثّرة، بما فيها العقارات والفروع، مما سيسمح بإعادة شرائح أوسع من الودائع، طبعًا بعد تحميل الرساميل أوّل شريحة من الخسائر. ووحده المصرف القديم القادر على إعادة الرسملة، بعد شطب الرساميل، سيبقى في السوق، كمصرف نظيف، تمامًا كالمصارف الجديدة. جمعيّة المصارف لن تحب الفكرة حتمًا، لكن “هذه هي الرأسماليّة” (على حد قول الرئيس الأميركي جو بايدن).
الحد من اقتصاد النقد الورقي
بهذه الصورة، ستكون المصارف الجديدة عاملًا مساعدًا خلال عمليّة إعادة هيكلة القطاع. لن تضع المصارف الجديدة رساميلها في سلّة الخسائر طبعًا، لكنّها ستسمح بالتوسّع في إجراءات التصفية لموجودات القطاع القديم خلال إعادة الهيكلة، طالما أن البديل موجود، وكون المصارف القديمة لا تملك ورقة “نحن أو لا أحد”، فيما بات الاستحواذ على موجودات القطاع القديم والبائس متاحًا بوجود المصارف الجديدة.
في الوقت نفسه، ستساهم المصارف الجديدة باستعادة التحويلات، إذا عملت وفق معايير وآليّات شفّافة. وستساهم في ضخ السيولة بالعملة الصعبة في السوق، من خلال عمليّات الائتمان والتسليف. كما ستساعد في خلق نظام دفع مصرفي جديد، بعيدًا عن اقتصاد النقد الورقي، الذي يرفع مخاطر تبييض الأموال، ويرفع مخاطر عزلة لبنان عن النظام المالي العالمي (راجع المدن). أمّا الأهم، فهو أن المليارات موجودة في المنازل، وهي تنتظر فرصة وجود مصارف جديدة قادرة على استعياب هذه الدولارات، وإبعاد أصحابها عن مخاطر السرقة والخضّات الأمنيّة. بمعنى أوضح: السوق عطشى لهذه المصارف، إن من ناحية القروض أو الودائع أو أنظمة الدفع. وفي أسواق المال العالميّة، هناك من ينتظر فرصة كهذه.
خطوات مسبقة ضروريّة
حسنًا، الصورة ليست ورديّة بشكل تام. هناك ما يكفي من عقبات لمنع هذه الاستثمارات المصرفيّة من القدوم، وهناك ما يجب فعله لتذليل هذه العقبات. فمجرّد فتح الباب لمنح التراخيص، لن يضمن قدوم طالبي التراخيص.
لنفترض أن مصرفًا جديدًا دخل إلى السوق اليوم. وأنّ هذا المصرف اضطرّ لقبول شيكات مسحوبة على “مصارف الزومبي” القديمة. سيكون المصرف قد راكم على نفسه إلتزامات لصالح أصحاب هذه الشيكات، بينما سيحصل مقابلها على سيولة في حسابات موجودة لدى المصرف المركزي. أي سيصبح المصرف الجديد مدينًا بالدولار لمودعيه، ودائنًا باللولار في مصرف لبنان، وستتراكم لديه فجوة الخسائر تمامًا كحال المصارف القديمة.
هل يمكن تجاوز هذه العقبة؟ حسب جميع النقاشات التي جرت داخل مصرف لبنان نفسه، نعم. وبموجب تعاميم تميّز أنظمة دفع وعمل المصارف الجديدة. وبموجب قرارات تعفي هذه المصارف من موجب الاحتفاظ باحتياطات دولاريّة لدى مصرف لبنان، مقابل الاحتفاظ بنسبة معيّنة من السيولة لدى المصارف المراسلة. وبإمكان المصرف المركزي التشدّد في معايير السيولة التي يجب اعتمادها، لمزيد من الطمأنينة. وستكون المصارف الجديدة قادرة على العمل والربح مهما تشدّدت هذه المعايير، طالما أن السوق مفتوحة وخالية أمامها، بغياب المنافسة.
هاجس الدولارات الجديدة والقديمة
ستثير هذه المسألة هواجس بعض الذين لطالما حذروا من التمييز –بالتعاميم والتنظيمات- بين الودائع الجديدة والقديمة، وأوّلهم كاتب هذه السطور.
لكن ألم يجرِ هذا التمييز أصلًا بموجب التعاميم التي جرى إصدارها؟ ألم تصبح الدولارات الطازجة مميّزة في “مصارف الزومبي”، من ناحية طريقة استعمالها ودفعها؟ ألم يتم إعفاؤها من موجب وضع الاحتياطات مقابلها في مصرف لبنان؟ ألم يفرض مصرف لبنان وضع احتياطات موازية مقابلها في حسابات المصارف لدى المصارف المراسلة؟
إذن، أليس الأجدر استعمال هذه الدولارات الطازجة في خلق نظام مالي صحّي، يسهّل نهوض الاقتصاد المحلّي وإعادة هيكلة القطاع المصرفي القديم؟
كل ما سبق ذكره، يحتاج أولًا إلى تحرير حاكميّة المصرفي المركزي، والنظام السياسي بأسره، من حسابات ومصالح المصارف القديمة، وهذا غير متاح حتّى اللحظة. ولذلك، تبدو فكرة استحداث مصارف جديدة غير واقعيّة اليوم، بالنظر إلى نفوذ اللوبي المصرفي الذي لا يملك مصلحة في هذا النوع من المسارات. ومع ذلك، من المهم القول: دخول مصارف جديدة على القطاع في لبنان، وحده ما سيسمح بتحرير الاقتصاد من ابتزاز “مصارف الزومبي” وسطوتها. وهو ما سيسهّل إعادة هيكلة القطاع، ومعالجة خسائره، وتصفية ما يجب تصفيته. وهو ما سيسهّل حركة القطاعات المنتجة، التي تحتاج إلى نظام مالي كفوء لخدمتها.