وجهت الجزائر أنظارها نحو القطاع التجاري لدفع الاقتصاد المنهك جراء انهيار أسعار النفط، حيث تسعى الدولة إلى تحصيل الإيرادات عبر تنمية مقدرات الشركات العامة على التصدير والنهوض بالجودة، في خطوة سرّعتها تحديات تآكل عوائد الطاقة.
سارعت الجزائر إلى البحث عن مصادر تمويل جديدة خارج قطاع المحروقات، وذلك بوضع خطة لتعزيز الاستفادة من مقدرات التصدير وتحسين جودة المنتجات المحلية، عبر وكالة وطنية لمتابعة وتنفيذ برنامج الجودة، في ظل محاولات الحكومة لتنويع الاقتصاد على قاطرة رفع أهلية المؤسسات وإزالة العراقيل والنظم القديمة التي تعرقل النمو.
قدمت مجموعة من خبراء الاقتصاد الجزائريين مجموعة التوصيات، بهدف تنظيم تسيير الشركات والمؤسسات وتعزيز مقدراتها التصديرية وتنمية قطاع التصدير خارج المحروقات.
وفي هذا الإطار قدم خبراء واقتصاديون استراتيجية شاملة، تضمنت جملة من التوصيات الرامية إلى دعم الشركات والمؤسسات الاقتصادية العامة.
وتهدف المبادرة إلى دعم الاستثمار في الرأسمال البشري وتبني معايير الجودة ورفع التجريم عن أفعال التسيير من أجل تحرير المسيرين من مختلف العراقيل التي تواجههم (عدم إدراج أخطاء التسيير الإداري في خانة الفساد).
وشدد المدير العام للهيئة الجزائرية للاعتماد “ألجيراك” نورالدين بوديسة، على ضرورة إعداد استراتيجية وطنية للجودة وتنفيذها خلال الفترة 2020-2024، مؤكدا أن الجزائر تملك ألفي مخبر في مختلف الميادين (السكن والأشغال العامة والصناعات والصحة) يمكن أن تمنح لها الاعتماد.
وعبر المدير عن أسفه بقوله “المنتجات الجزائرية المصدرة غير معتمدة وغير محمية” موضحا “لاحظنا غياب وظيفة الجودة داخل مؤسساتنا حيث أن النظم التقنية المتعلقة بمعايير جودة المنتجات المصنعة أو المستوردة ما زالت غير متوفرة”.
وتابع “نعاني من تأخر كبير وجب استدراكه، لاسيما بالنسبة للقطاعات الاقتصادية الإستراتيجية، مما يتوجب المضي قدما نحو سياسة وطنية خاصة بالجودة، مقترحا وضع وكالة وطنية لمتابعة وتنفيذ برنامج الجودة”.
وأكد عدد من الوزراء المشاركين على ضرورة تحديث منظومات تسيير الشركات والمؤسسات العامة الاقتصادية، ومرافقتها بعديد الإجراءات من أجل تحضيرها لولوج عالم المنافسة.
وأشار وزير البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية إبراهيم بومزار، إلى أن السلطات العمومية تعمل على مرافقة المؤسسات العمومية من أجل السماح لها بخلق قيمة مضافة والمساهمة في الثروة الوطنية.
ويرى الوزير أن القطاع العمومي التجاري يضم اليوم حوالي 33 مجمعا عموميا كبيرا وما يزيد عن 520 مؤسسة عمومية اقتصادية، مذكرا بأن تسيير هذه الهيئات قد عرف عديد النماذج التنظيمية (شركات قابضة وشركة تسيير المساهمات ومجمعات).
وأكد بومزار من جهة أخرى أن “الحكومة تعمل على خلق بيئة مواتية وتسهيلية لبروز هذه المؤسسات العمومية دون التدخل في تسييرها اليومي”، مشددا في هذا الصدد على “الصعوبات التي تواجه بعض مسيّري الشركات العامة في سبيل إيجاد حلول للمشكلات المطروحة داخل هذه المؤسسات”.
وفي ذات السياق، أكد بومزار على الضرورة الملحة للتخلي عن النظم الكلاسيكية لتسيير المؤسسات، القائمة خصيصا على انتظار تعليمات من السلطات العامة والتغطية السياسية من الوزراء من أجل التحرك.
وتابع “نحن بحاجة اليوم إلى مدراء استباقيين وبارعين يتكيّفون مع كل نموذج اقتصادي جديد”، متطرقا في نفس الإطار إلى حالة المؤسسات التابعة لقطاع الاتصالات السلكية واللاسلكية التي استثمرت في البنى التحتية دون القدرة على الاستجابة لتطلعات المواطنين في مجال الرقمنة.
وأضاف “اليوم، إذا ما أبقينا على نفس نماذج التسيير الكلاسيكية وانتظرنا باستمرار تعليمات الوزارة، فإن الأمور لن تسير على النحو المطلوب. وفي حالة ما قررنا الانفتاح على المنافسة، ستغرق الكثير من مؤسساتنا. ثمة مؤسسات مكتظة بأعداد كبيرة من العمال مقارنة بالمعايير الاقتصادية”.
من جهتها، تطرقت وزيرة البيئة نصيرة بن حراث إلى مسألة الحفاظ على البيئة من طرف أرباب المؤسسات الجزائرية، مشيرة إلى أنه يجب على المسيّرين الأخذ بعين الاعتبار التسيير البيئي.
وعبرت الوزيرة عن أسفها من “حجم الخسائر البيئية الذي بلغ 1200 مليار دينار سنة 2015 أي ما يعادل نسبة 6.9 في المئة من الناتج القومي الإجمالي ولم يتحسن أي شيء منذ ذلك الحين”.
ودعت بن حراث كافة المؤسسات الصناعية الجزائرية إلى الوعي بمسألة احترام البيئة و قضية الاحتباس الحراري أيضا.
وفي السياق ذاته، أعلنت وزيرة البيئة عن مراجعة القانون 01-19 المتعلق بتسيير النفايات قريبا لتوسيع دائرة مسؤوليات المنتجين وخفض إنتاج النفايات وتشجيع الأنشطة التدويرية.
من جهته ذكّر وزير العمل والتشغيل والضمان الاجتماعي الهاشمي جعبوب بالهدف الرئيسي للحكومة، الذي يندرج في خفض نسبة البطالة مما يستدعي دوما فتح مناصب شغل.
وذكر الوزير بحكومات بعض الدول الأوروبية، التي تدعم مؤسسات اقتصادية رغم مخالفتها للقانون الخاص بالمنافسة.
ولم يفوّت وزير العمل هذه الفرصة للتذكير بضرورة مراجعة اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، الذي تحمل بنوده “إهانة للمؤسسات الوطنية”.
من جهته، تطرق أستاذ القانون والوزير الأسبق عبدالحميد برشيش إلى مسألة “رفع التجريم عن أفعال التسيير”، مؤكدا على غياب النصوص “الواضحة” ووجود غموض بخصوص بعض مواد قانون العقوبات المتعلقة بتجريم ورفع التجريم عن الإدارة والتسيير داخل الشركات العمومية والمؤسسات العمومية ذات الطابع الاقتصادي والتجاري.
ودعا برشيش إلى مراجعة مواد القانون وإنشاء خلية يقظة قانونية أو لجنة تهتم بالوسائل القانونية، التي من شأنها تعزيز حماية الإطارات المسيرة بطريقة تجنب المتابعات القضائية وسجن مسيّري المؤسسات العمومية.
أما الإصلاح الآخر، الذي تطرق إليه الخبراء، فيتعلق بتسيير الموارد البشرية، حيث أعرب في هذا الإطار الأستاذ الباحث بالمدرسة العليا للتجارة بالقليعة رابح عمر، عن أمله في أن يتم استبدال تسمية “مورد بشري” بتسمية “ثروة بشرية”.
وأضاف “لقد لاحظنا أن مديريات الموارد البشرية للمؤسسات الجزائرية تعتني بشكل كبير بالشؤون الإدارية على حساب تلك المرتبطة بالكفاءات. ينبغي أيضا إعادة النظر في أنظمة التحفيز والأجر القائمة اليوم على الفرص الشاغرة وليس على الكفاءات المضطلع بها”.
وتابع برشيش “كل الدراسات ذات المرجعية العالمية أكدت أن الثروة البشرية تعد عامل نجاح لا بد منه على صعيد الاقتصاد الكلي والجزئي”.
وشدد الباحث عمر حميسي على انعدام الاستقرار من حيث الإطارات المديرة للمؤسسات العمومية، مستشهدا بقطاع الاتصالات السلكية وغير السلكية.
وشهد كل من بريد الجزائر واتصالات الجزائر خلال الفترة 2004-2018، أكثر من عشرة مدراء عامين لكل واحدة، حيث تم إنهاء مهام البعض لأسباب “ليست لها صلة بطريقة تسييرهم”.
وفي هذا السياق تندرج دعوة الخبراء إلى مراجعة القوانين والتراتيب، التي تنظم إدارة وتسيير الشركات العامة، وخصوصا رفع التجريم عن الأخطاء التي لا تنخرط في خانة ممارسات الفساد لتحرير الشركات وحثها على الابتكار.
وقال الخبير محفوظ درغوم إن “انعدام الموازين المالية ومشكلة المديونية والرحيل الكبير للكفاءات ازدادت حدته”، مضيفا أن “كل الإصلاحات الهيكلية التي مست المؤسسات العمومية الاقتصادية لم تؤدّ إلى تحسين طرق الإدارة والتسيير”.