لا يُمكن إحتساب الأزمة التي نشبت على جبهة ركني التسوية الرئاسيّة، على ملف محاكمة الحاج – غَبش فقط، ومن يدّعي ذلك من المؤكّد انّ لديه قصوراً في النظر السياسي، لكون المشكلة اصلاً ناشئة عن سلسلة تراكُمات دارت حول المنهج والصلاحيّات منذ مدّة، واليوم يمكن المشاهدة وبوضوح انّ الخلاف خرجَ من عنق الزجاجة، وباتَ يتشعّب إلى مستويات عدّة نتيجة أسباب تتوزّع بين «إهمال الحريري» و «غياب ضابط الإيقاع».
لامست عبارة وزير الخارجيّة جبران باسيل التي فجّرها امام «مثقّفين سُنّة» في تل ذنوب، مستوى اسقاط التسوية الرئاسيّة، حتّى انها بلغت الدرك الأسفل من التخاطب السياسي، مع لجوء كلا الفريقين، بخاصة «تيّار المستقبل»، إلى تفعيل «الجناح المُتشدّد» الذي امسى يرمي الوزير جبران باسيل بشتّى صنوف الاسلحة، حتى انّ عمليّة التأهب التي اشتدّت مع دخول ملف الحاج – غَبش – عيتاني كعامل يزيد التفجير، استدعت تحوّل مستوى «المستقبل العميق»، من مدار تأييد التسوية إلى رفضها.
«الذنوب السياسيّة» المتكوّنة اليوم على «درج» العلاقة الثنائيّة بين الطرفين، ارتفعَ منسوبها من ظل عدّة أمور لا يُمكن تجاهلها، بدأت من إهمال رئيس الوزراء سعد الحريري لدوره على طاولة مجلس الوزراء، والانصياع التام إلى لغة التهديد المتلطّية تحتَ عبارة الاستقالة، التي سمعها عدّة مرات من «برتقاليين»، ثمّ خروج نادر الحريري من حديقة الطرفين، وهذا بالذات ما انعكسَ سلباً على العلاقة وتركها تُراوح بين نفوذ باسيل المتنامي وضعف الحريري في المواجهة.
عموماً ما كُتب قد كتب، وما شهدناهُ في الأيّام الماضية من «حِمم سياسيّة»، تُعد رأس قمّة جبل الجليد الذي بدأ يذوب، وهو ما أتاحَ للفريق المصنّف ضمن دائرة «التطرّف» تجاه رفض التسوية الرئاسيّة، سهولة التحرّك وإطلاق يد الخطاب السياسي المتشنّج والبناء عليه، لا بل انّ هذا التحوّل جرّ باقي «أجنحة المستقبل»، خاصة تلك التي تُصنّف على يمين «التسوية» تلقائيّاً إلى ميدان المواجهة، ما يعني انّ البِساط بدأ يُسحب من تحتها.السعودية، تسريبات،الملفات،
الرئيس الحريري الذي يلوذ بالصمت المطبق منذُ إندلاع الأزمة، تركَ على ما يبدو معالجة الملف إلى المستوى السياسي المتنوّع في «تيّار المستقبل» وبعض الأوساط المحسوبة عليه، مفضّلاً قضاء «عطلة العيد» مع عائلته في المملكة العربيّة السعوديّة بعيداً عن «الشوشرة»، امّا أوساطه، فهي لا تُخفي درجات الامتعاض والاستياء التي تكوّنت لديه من 3 أمور انفجرت دفعة واحدة وجعلت موقفه يميل إلى «الإعتكاف» عن باسيل، وهي بالحقيقة 3 تسريبات: طرح باسيل لملف اللواء عثمان على الطاولة، تسريبات تل ذنوب، تدخّل الوزير الياس بو صعب في ملف الحاج – غبش، ومن ثم اعترافه بذلك، وللمفارقة فإن الملفات الثلاث سربت عبر «ليبانون ديبايت».
ما يمكن فهمه حالياً داخل «تيّار المستقبل»، انّ «مجموعة العشرين» عادَ دورها ليبرز هذه المرة إلى جانب الرئيس الحريري، وما يُسرّب انّ هذه المجموعة تأهبت في الساعات الماضية من أجل بناء موقف موحّد داخل «التيّار الأزرق» يرتكز إلى ركن المواجهة، وهذا ما تجلى من مواقف أكثر من مسؤول «مستقبلي»، بحيث تولّت خوض المعركة السياسيّة عن الرئيس الحريري بالمباشر هذه المرّة.الازمة
أوساط مقرّبة من الحريري، تؤكّد لـ«ليبانون ديبايت»، انّ ما دارَ خلال الأيّام الماضية من قبل وزراء التيّار الوطني الحرّ بخاصة رئيسه الوزير جبران باسيل، مثّل طعنة قاسية في جسد التسوية الرئاسيّة، على نحوٍ جعلها تترنّح وتتخضّب بدمائها أمام الجميع، واللافت انّ أحداً لم يبدِ شجاعةً في انتشالها ومداواتها، وهذا ما يدل على صعوبة الحمل الذي يشعر به سواء المحسوب عليها أو المعارض لها.
وذكرت انّ وساطات «محدودة» دخلت على الخط من اجل لملمة الأمور ومعالجة ذيول الازمة، لكن أحداً من الطرفين لم يظهر حرصاً على سماعها، وتعامل معها ببرودة واضحة، وهذا وحده يكفي لفهم مستوى المشاعر التي تكوّنت مؤخراً.
لكن أخطر ما تغمز به أوساط سياسيّة مواكبة للعلاقة بين «المستقبل» و «الوطني الحر»، هو احتمال تسرّب الخلاف «الاكثر من جدّي» إلى مستوى طاولَ مجلس الوزراء، وهذا بحد ذاتهِ باباً يؤسّس لخطر قد يذهب بالحكومة في مهب الريح، خاصة وانّ الأجواء لا توحي بحلٍ قريب، وإنّ «مطلقي الأسهم على التسوية» هم من يُديرون المركب الآن، وإنّ «النفوس المتشنّجة» سرعان ما ستنفجر حين حصول أي لقاء مباشر.
لكنّها في المقابل، لفتت إلى انّ موقف الوزير جبران باسيل من التسريبات ثم كلام النائب سامي فتفت المرحب به، يمكن البناء عليه في فتح كوّة ولو صغيرة، بحيثُ يُسمح للطرف الذي ما زال يراهن على أهميّة التسوية، الخوض في مجال ترطيب الأجواء خلافاً لرغبة الفريق الذي بات يجد بالتسوية «شراً مطلقاً».
وحده رئيس الجمهوريّة ميشال عون يدور في حلقة مفرغة مستغرباً ما جرى ويجري من حوله، وانتقال مستوى الخلاف السياسي إلى حدود “التشنّج المذهبي»، وما يدل إلى ذلك، ما نقلته أوساط سياسيّة عنه في الساعات الماضية، ومدى انزعاجه من خروج الأزمات دفعة واحدة وانزلاقها إلى حدود المواجهة بشتى الاسلحة.