خرج الاشتباك بين المطاحن والأفران ووزارة الاقتصاد عن ضوابطه، فخلَّفَ انقطاعاً تاماً للخبز في الكثير من المناطق، والأوفر حظّاً شحَّت لديه الكميات. وبين يوميّ السبت والأحد الماضيين، كانت بوادر الانقطاع قد بدأت بالظهور إثر احتدام المعركة بين الأطراف الثلاثة، يوم الجمعة 10 حزيران. أما يوم الاثنين، فأصبح فاتحةً لأسبوعٍ متقلِّب يؤمَّن خلاله الخبز وينقطع بحجّة عدم توفّر الطحين بكميات كافية. على أن المعضلة الأكبر، هي اعتراف وزارة الاقتصاد بهذه المعادلة والتسليم باستمرارها إلى أجلٍ غير مسمّى.
توقّف الأفران عن الانتاج
تتوقّف المطاحن، تباعاً، عن تأمين الطحين للأفران. ما يضطرّ الأخيرة إلى عدم إنتاج الخبز وتوزيعه على المناطق، ما انعكس انقطاعاً للخبز بنسبٍ متفاوتة. يُبرِّر نقيب أصحاب الأفران علي ابراهيم عدم انتاج الخبز بعدم استلام الأفران للطحين المدعوم المخصّص لصناعة الخبز العربي. وكان ابراهيم أكّد في وقت سابق توقّف ثلاث مطاحن كبرى عن العمل، واتّجاه الأخرى للتوقف مع نفاد مخزون الطحين لديها، والذي قد يكفي لنحو 20 يوماً فقط.
وفي حديث لـ”المدن”، حَسَمَ ابراهيم موقفه المتمثِّل بـ”عدم التحدّث عن مشكلة الطحين، وانما فقط مشكلة الخبز”، داعياً إلى التوجّه نحو وزارة الاقتصاد لسؤالها عن أسباب الأزمة “طالما أن الوزير يؤكّد وجود 45 ألف طن من القمح لدى المطاحن”. ورَفَعَ ابراهيم يديه معلناً أن “الأفران تخبز إذا وصلها الطحين، وإذا لم يتوفَّر، فلا خبز. هذا هو حجم القضية، وليس لدينا أي خطوات إضافية بعد رفعنا للصوت مراراً”.
لا طحين لانتاج الخبز العربي، لكنه متوفّر لانتاج باقي أصناف الخبز والحلويات. وهنا، يفصل ابراهيم بين الطحين الذي يؤمّن مصرف لبنان الدولارات لاستيراده، وبين ذلك المستورد بسعر السوق والذي تصنع بواسطته تلك الأصناف وتباع بأسعار مرتفعة لأن “سعر طن الطحين 800 دولار. علماً أنه غير متوفّر أيضاً بالكميات المطلوبة”.
إدارة الأزمة
ليس لدى المديرية العامة للحبوب والشمندر السكّري في وزارة الاقتصاد، ما تقدّمه كحلول جذرية لأزمة الطحين والخبز. فهي مرتبطة بعدم توفّر الدولارات لدعم الاستيراد. على أن جزءاً من الأزمة تخلقه الأفران، وفق ما أكّده المدير العام للحبوب والشمندر السكّري، جريس برباري، الذي اعتبر في حديث لـ”المدن”، أن الأفران “تطالب بالحصول على كميات كبيرة من الطحين دفعة واحدة، وفي فترة زمنية محددة، ما يخلق ضغطاً على المطاحن التي لا تستطيع تلبية الطلب المتزايد في ظل اقفال بعضها ورمي الحمل على مَن يواصل العمل”.
لا تستطيع المديرية ووزارة الاقتصاد العثور على حلّ. حتى جولات الرقابة لا تجدي نفعاً طالما أن كميات الطحين شحيحة ولا آلية للتأكّد من استعمال الأفران لكميات الطحين المدعوم بالطريقة الصحيحة. وأقصى ما يمكن فعله هو “إدارة الأزمة خطوة بخطوة”، على حد تعبير برباري.
وفي ظل هذا التناحر، تقع ربطة الخبز وسط تناقض واضح، إذ “لا رفع للدعم عن الطحين”، يقول برباري، لكن “سعر الربطة سيستمر بالارتفاع”، يقول ابراهيم، الأمر الذي يُحَقِّق نتيجة رفع الدعم دون اتخاذ القرار بشكل مباشر، فاحتمالات الارتفاع مفتوحة. وإلى حين بروز أي تطوّر لافت، يبقى سعر ربطة الخبز الكبيرة، في محيط الـ14000 ليرة، ويرتفع أحياناً 1000 ليرة مع تحرّك أسعار المحروقات.
وحتّى اللحظة، يتراوح مخزون القمح لدى المطاحن بين 40 و45 ألف طن، بحسب وزير الاقتصاد أمين سلام. وفي المقابل، يحتاج السوق إلى نحو 36 ألف طن شهرياً، ما يجعل الكمية المتوفّرة، كافية لما يزيد عن شهر بقليل. لكن وزارة الاقتصاد تقلّل من سلبية المشهد، لأن دعم الاستيراد مستمر، وإن لم يكن هناك مخزوناً استراتيجياً في السوق.
نبيه برّي وعبّاس ابراهيم
ارتبط اسم رئيس مجلس النواب نبيه برّي والمدير العام للأمن العام اللواء عبّاس ابراهيم بحلّ الخلافات بين وزارة الاقتصاد والأفران. وكان الرّجلان يتدخّلان لثني الأفران عن تنفيذ الاضرابات والامتناع عن انتاج الخبز أو توزيعه ليصل إلى المناطق. وغالباً ما ارتبط التصعيد والتهدئة برغبة الأفران زيادة أرباحها. إلاّ أن انفلات أزمة البلاد وتحوُّل الدولار إلى المفتاح الأوحد لحلّ الأزمات، قلَّصَ قدرة برّي وابراهيم على التدخّل، لأن الحل يكمن في تأمين الدولارات حصراً. ولذلك، باتت الأفران تبادر إلى التوقّف عن انتاج الخبز دون انتظار مساعي رئيس المجلس والمدير العام، وهذا ما يستدعي القلق. فلا أحد في هذه الحالة يستطيع التأثير على مجريات الأمور سوى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
الخبز سيبقى مترنّحاً بين الانقطاع التام والجزئي. وهذا ما يستدعي تخزين الناس لما يمكن الحصول عليه من خبز. وفي الوقت عينه يعني زيادة الطلب. والمتنفّس الوحيد هو الخبز غير المدعوم، لمن استطاع إليه سبيلاً، أي بدفع نحو 35 ألف ليرة ثمن الربطة.