على الطريق المؤدّية الى قصر بعبدا ينكّب عدد من العمال على تشذيب العشب الأخضر، اما في داخل القصر فإنّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون يخوض الورشة الاصعب: «مكافحة» العشب اليابس المتغلغل في كل نواحي الدولة.
وقار الرئاسة لم ينزع من عون روح النكتة، وصعوبة الأزمة الاقتصادية- المالية لم تسلب منه التفاؤل بالقدرة على تجاوزها. واكب من بُعد نقاشات مجلس الوزراء في السراي الحكومي حول مشروع الموازنة، لكنه لا يلبث ان يبدو في قلبها عند الدخول الى التفاصيل. يعمل في الليل كما في النهار، بعدما صارت ساعته تعتمد توقيت الملفات لا الزمن.
طاولته المزدحمة بالأوراق تعكس «الجهوزية» الدائمة في مكتبه الذي تصبّ فيه كل أنواع القضايا، من الشأن العام الى الهموم الفردية. «هنا قصر الشعب، وأنا حريص على التفاعل مع أصحاب المطالب المشروعة، بمقدار ما استطيع».
لا يزال عون – الرئيس يفضّل مخاطبة الناس بـ«شعب لبنان العظيم» الذي يجب ان يربح اليوم، في رأيه، تحدّي الاصلاح والنهوض الاقتصادي كما ربح في السابق تحدّي استعادة السيادة والاستقلال.
مواصفات الموازنة
ويؤكّد عون، أمام زواره، «انّ الموازنة التي يجري إعدادها هي موازنة إصلاحية، تستحق ان تُمنح الوقت اللازم لإنجازها بأفضل طريقة ممكنة»، مستغرباً محاولة البعض الإيحاء بأنّ هناك أموراً تافهة تُناقش، ولافتاً الى «انّ العجز يرافق الموازنات منذ زمن طويل وهو تفاقم أخيراً وبلغ سقفاً غير مقبول، ما يستدعي اتخاذ التدابير الضرورية لخفضه»، مشددًا على «انّ المطلوب موازنة تخفّض العجز من جهة وتساهم في النمو من جهة أخرى»، منبّهاً الى «انّ دولة مكسورة أو منهوبة لا تستطيع ان تحقق النمو». ويضيف: «البعض يُقزّم المصلحة العامة ولا يراها إلاّ من نافذة جيبه ومنفعته الخاصة، أمّا الإجراءات التي ستتضمنها الموازنة فمن شأنها ان تحقق المصلحة العليا الحقيقية، وبالتالي هي أصبحت حتمية، وسواء وافق البعض عليها أم عارضها، فانّ هذه الإجراءات ستُعتمد لأنّها ممر إلزامي للخروج من المأزق».
ولا يعتبر عون انّ هناك مشكلة في المدة الطويلة التي استغرقها نقاش الموازنة في مجلس الوزراء، «ما دام البحث يتركّز على سبل خفض مكامن العجز والهدر وزيادة الإيرادات، للوصول الى موازنة مقبولة تحاكي التحدّيات، وتحظى بثقة اللبنانيين والأسواق المالية». ويستغرب كيف انّ بعض السياسيين والاعلاميين يساهمون في إشاعة أجواء من الخوف والهلع لدى اللبنانيين، من دون الإستناد الى وقائع دقيقة، «علماً أنّ من يشغل موقع المسؤولية، سواء في السلطة أو في الاعلام، يجب أن يكون متحفظاً في ما يطرحه».
ويؤكّد عون انّه مطمئن الى مستقبل الوضع المالي والاقتصادي «بعد عبور هذه المرحلة الصعبة التي سنتمكّن من تجاوزها بالمشاركة والشراكة بين الجميع، كلٌ من موقعه ووفق قدرته، جازماً بأن لا انهيار ولا إفلاس».
ويشير عون الى «انّ خيارنا الوحيد هو التغلّب على الأزمة الحالية، لأننا إذا سقطنا سنصبح تحت الوصاية المالية الدولية ونفقد قرارنا المستقل، وبالتالي فإنّ المعركة الاقتصادية التي نخوضها حالياً هي في أحد جوانبها جزء من معركة الدفاع عن السيادة والاستقلال، إضافة الى بُعدها الإنمائي والاصلاحي»، مشدداً على «أهمية أن يتخلّى الاقتصاد اللبناني عن طابعه الريعي ليغدو منتجاً».
خلاف خليل وباسيل صحي
وخلافاً للإنطباع السلبي الذي تكوّن لدى البعض حول الخلاف بين الوزيرين علي حسن خليل وجبران باسيل على مشروع الموازنة، يعتبر عون انّ «هذا الخلاف صحي»، لافتاً الى «انّ تباين الآراء في هذا الشأن ليس ضاراً، ما دام انّ الهدف هو تحسين مواصفات الموازنة واعتماد التدابير الأنسب لخفض معدل العجز».
ويشير عون الى «انّ جميع الوزراء يجب ان يكونوا معنيين بالنقاش حول الموازنة، ومجلس الوزراء مكوّن من 30 وزيراً ولا يمكن اختصاره بأحد»، مشيرا الى «وجود محاولة لتضليل اللبنانيين ودفعهم الى اليأس بهدف ضرب الإنجازات المحققة».
مكافحة الفساد
وتبعاً لزواره، يشدّد رئيس الجمهورية على «انّ معركة مكافحة الفساد مستمرة وهي ستتواصل في كل المجالات»، مضيفاً بنبرة تحذيرية: «بصراحة.. ستكون هناك مشكلة مع من يحاول عرقلتها». ويلاحظ «انّ اصوات الذين كانوا يزايدون علينا في مكافحة الفساد خفتت أخيراً، اما نحن فلم يتراجع عزمنا على المضي في مسيرة الإصلاح الى الأمام، وما حصل ويحصل من تصويب وتنقية في الضمان الاجتماعي والقضاء والجمارك وقوى الامن الداخلي وغيرها من المؤسسات سيستمر. الإصلاح بالنسبة الينا هو نهج دائم وليس موضة موسمية». ويضيف: «قد يمنع وزير رفع الحصانة عن موظف في وزارته لبعض الوقت، إلا انّه لن يستطيع ان يفعل ذلك كل الوقت، وفي نهاية المطاف ستُرفع الحصانة».
الحكومة لا تواكبني
ويشعر عون «أنّ الحكومة لا تواكبني بالمقدار اللازم»، مشدداً «على أهمية تفعيل انتاجيتها في كل الملفات، ولافتاً الى وجوب ان تعمل بوتيرة اقوى في اتجاه كسب ثقة المواطن، حتى يتشجع على المساهمة في التضحيات والأعباء التي يستوجبها النهوض الاقتصادي».
وماذا عن توقيف رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الاسمر، وهل صحيح ما يردّده بعض السياسيين من انّ لبنان يدخل شيئاً فشيئاً في طور الدولة البوليسية؟
لا يفضّل عون التوسع كثيراً في ملف الاسمر، أمام زواره، مكتفياً بالاشارة الى «انّ قضيته لم تعد فقط قانونية وانما أصبحت قضية رأي عام».
السهام لا تصيبني
اما الإتهام بتحويل لبنان دولة بوليسية، فيسخر منه عون، مشدداً على انّ غايته هي «دولة القانون لا الدولة البوليسية». ويتساءل: «أين هي النزعة البوليسية فيما حرّية التعبير وصلت الى حدّها الاقصى عبر مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها. وللعلم، فأنا أعتبر نفسي فوق سقف الأذى، وبالتالي لا يمكن ان تصيبني السهام، ليس فقط لأنني أحترم الدستور والقانون بل قبل ذلك لأنني محصن بضميري».
ويروي عون، انّه تمنّى مرّة على المدّعي العام التمييزي «إطلاق شخص هاجمني وهاجم عائلتي بقسوة من دون اي مراعاة للضوابط والاصول، علماً انني أرفض كلياً التدخّل في أحكام القضاء وشؤونه، لكنني تدخلت في هذا الأمر لأنّه كان يتعلق بالتنازل عن حق شخصي».
ساترفيلد والحدود
وأين أصبحت مهمة مساعد وزير الخارجية الاميركي ديفيد ساترفيلد في شأن ترسيم الحدود البحرية للبنان مع فلسطين المحتلة؟
يعرب عون عن «ارتياحه» الى مسار هذا الملف حتى الآن، مشدداً على «انّ لبنان متمّسك بحقوقه البحرية والبرية»، وموضحاً «أن اي حلّ سيكون متناسباً مع مقتضيات المصلحة اللبنانية العليا بالتأكيد». ويشيد بالتعاون والتنسيق السائد بينه وبين الرئيسين نبيه بري وسعد الحريري في هذا الاطار، قائلاً: «ما نسعى الى تحقيقه في مجال ترسيم الحدود سيكون إنجازاً كبيراً».
وهل يخشى من حرب في المنطقة على وقع التهديدات المتبادلة بين طهران وواشنطن؟
يجيب عون بلا تردد، قائلاً: «لا أتوقع نشوب حرب. وما يجري هو رفع الصوت والسقف تمهيداً للتفاوض».