منذ نهاية عام 2019، وأسعار الإيجارات في لبنان تساوي أضعاف قيمة الحد الأدنى للأجور بالليرة اللبنانية، التي لم تشهد تصحيحاً بعد انهيار العملة والتضخم الحاصل. باتت الإيجارات أشبه بمزادٍ، كلّ واحد من المالكين يضع التسعيرة الخاصة به، إما وفق سعر صرف «السوق السوداء» أو يشترط الحصول على دولارات نقدية. السكّان المُحرومون من حقّ الحصول على سكن لائق، هم «ضحايا» دولرة الاقتصاد
«غزوة» الدولار في لبنان، في ظلّ «دولة» مُستقيلة من مهامها تاركةً القرار لـ«السوق»، قَضَت على كلّ الحقوق الطبيعية للسكّان. فالاقتصاد اللبناني «مُدولر» – بقرار غير رسمي – بطريقة تؤثّر على كلّ «تفاصيل» الحياة الاستهلاكية، من دون أي استثناء، وبدأ الناس يلمسون التبعات المُميتة لربط الاقتصاد بالدولار مع انفجار «الفقّاعة» في نهاية الـ2019. واحدة من الأبواب التي تتأثّر بهذا «الخلل الاقتصادي» هي سوق العقارات، وتحديداً الإيجارات، التي يُعتبر المُعدمون اجتماعياً وأصحاب الدخل المحدود والمتوسط أكثر الفئات تأثّراً بالمضاربات التي تحصل فيها. الإنفاق على الإيجارات يرتفع بمُعدّل شهري. لكن بين عامَي 2019 و2020 تسارعت وتيرة الزيادة بعد أن فقدت الليرة اللبنانية قيمتها، ومع تعدّد أسعار الصرف، والحرية لدى المالكين باعتماد سعر الصرف الذي يُناسبهم. فبحسب المؤشرات التي تنشرها دائرة الإحصاء المركزي، سجّل مؤشّر الإنفاق على الإيجارات في تشرين الثاني من العام الماضي، 133 نقطة، فيما سجّل المؤشر في الفترة نفسها من الـ2020، 149 نقطة… وارتفعت معها الهوّة بين الناس وقدرتهم على السكن، فبات هناك «سوقا» إيجارات في لبنان: واحدة لمن لا يملك القدرة المالية على الدفع، والثانية لكلّ من يقبض بعملة أجنبية. هذه الفئة الأخيرة باتت «الهدف الأول» (والأخير) لمالكي الشقق، تحديداً في بيروت. يُراهن المالكون على وجود نسبة كبيرة من العاملين الأجانب في لبنان، والموظفين لدى الشركات الأجنبية والمنظمات غير الحكومية والحكومية الغربية، وعائلات تستقبل التحويلات المالية من الخارج، فكُثرت الإعلانات عن تأجير بيوت مُسعّرة بالدولار، مثلاً: «منزل للإيجار بـ600 دولار أو 4.5 مليون ليرة». اعتمد مالك هذه الشقة سعر صرف يُعادل 7500 ليرة للدولار. ولكن يبقى ذلك «أهون» ممّن يشترط الدفع حصراً بالدولار الأميركي… الـ«فريش». علناً، يُقفل المالكون أبوابهم بوجه أصحاب الرواتب بالليرة اللبنانية، مُشاركين بحرمان الناس من حقّهم في الحصول على سكن لائق. المالكون «يتحصّنون» بقانون الإيجارات الذي حرّر منذ عام 1992 الأسعار (بضغط من أصحاب الشركات العقارية والمالكين القُدامى)، وبأنّ عقد السكن هو اتفاق بين طرفين، يتمّ فيه اعتماد الشروط المُناسبة لهما.
يقول نقيب المقاولين مارون الحلو إنّه «لا يحقّ لأصحاب الملك أن يُسعّروا بالدولار، ولكن في الماضي لم يكن هناك من محاسبة بسبب عدم اختلاف الأسعار مع تثبيت العملة واستقرار سعر الصرف. تبدّلت الأمور بعد تشرين الثاني 2019». يصف الحلو المرحلة الحالية بـ«الاستثنائية. صاحب العقار يُحاول تحسين وضعه عبر القبض بالدولار احتياطاً من انهيار إضافي بالعملة، في حين أنّ المُستأجر لن يكون قادراً على الدفع». الحلّ الأمثل هو في «لبنَنة قطاع الإيجارات، لأنّه طالما هناك مئة دولار معروضة، سيستمر كلّ شخص بفرض الشروط التي تُناسبه».
في ورقة بحثية نشرها موقع «Research Gate» سنة 2012، حول تأثير الدولرة غير الرسمية على الاقتصاد الصومالي، وُجِد أنّها تؤدّي إلى اضطرابات اقتصادية شديدة «من بينها الفشل في استقرار الأسعار في السوق المحلية، وإعاقة إرساء نظام إدارة مالية متين داخل مؤسسات الدولة». لذلك، أوصت الدراسة بتقليل الاعتماد على الدولار الأميركي، «مع تشجيع استخدام سلّة من العملات على المدى القصير، وتعزيز استخدام العملة المحلية على المدى الطويل. اعتماد مثل هذه الاستراتيجية، سيُسهّل تجنّب تكرار الأزمات المالية». وفي هذا الإطار، يقول أحد أساتذة الاقتصاد في «كلية لندن للاقتصاد» إنّ العملة اللبنانية «هي شكلٌ من أشكال الدولار، وقد فقدت قيمتها. مع الوقت، سترتفع الحاجات الاستهلاكية للمالكين وستشتد حدّة الانهيار مع خفض الدعم على استهلاك المواد الرئيسية، وبالتالي اضطرار أصحاب العقارات إلى خفض الأسعار، وإلا فلن يستأجر أحد».
ما يحصل في قطاع الإيجارات منذ أشهر، يُشير إلى نقطة مُحدّدة هي «غياب وحدة نقدية يتعامل الناس وفقها»، بحسب الأمين العام لحركة «مواطنون ومواطنات في دولة»، الوزير السابق شربل نحّاس. ويُضيف بأنّ «النقد فقد وظيفته الأساسية، كمسطرة أسعار، والأمر لا ينحصر في موضوع الإيجارات، بل بكلّ قطاع له مدى زمني، كعقود التشغيل، لأنّ لا أحد يقدر أن يُحدّد مُسبقاً كم ستبلغ قيمة الدولار». يؤدّي ذلك، وفق نحّاس، إلى «تعطّل إمكانية تبادل السِلَع».
في حالة الإيجارات، تأتي دولرة الاقتصاد وانهيار سعر الصرف لتحرم الناس في الحصول على المسكن. فبحسب برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية – «UN Habitat»، يُشكّل الحقّ في السكن «حجر الزاوية في الاستراتيجية العالمية للإسكان التي تُعرّف السكن اللائق بأنّه يضم: الخصوصية، المساحة، الأمن، الإضاءة والتهوئة، البنية التحتية الأساسية، الموقع المناسب بالنسبة إلى مكان العمل والمرافق الأساسية. وكلّ ذلك بتكلفة معقولة». وفشل الحكومات في تأمين الحقّ بسكن لائق، «يؤثّر على حقوق أخرى، كالعمل والتعليم والصحة والأمان». معظم الدول تعتمد سياسات مُعينة لتأمين السكن، في اسكتلندا مثلاً، أصدرت الحكومة سنة 2003 قانوناً يُلزم الحكومات المحلية إيجاد سكن دائم لجميع المشردين في مهلة 90 يوماً. أما في لبنان… فـ«الربّ راعيها». لم تهتم أيّ من الحكومات المُتعاقبة منذ التسعينات في اعتماد استراتيجية حماية اجتماعية، يكون السكن أحد أضلعها الرئيسية، مُستقيلة من مهمة لعب دور «الرقيب» على الأقلّ، حمايةً لمصالح الفئات الأضعف.
المادة الثالثة من قانون الإيجارات، تنصّ على إنشاء «صندوق خاص للإيجارات السكنية يكون تابعاً لوزارة المالية. يهدف هذا الصندوق إلى مساعدة جميع المستأجرين المعنيين بهذا القانون الذين لا يتجاوز معدّل دخلهم الشهري ثلاثة أضعاف الحدّ الأدنى للأجور وذلك عن طريق المساهمة في دفع الزيادات، كلياً أو جزئياً حسب الحالة، التي تطرأ على بدلات إيجاراتهم تنفيذاً لأحكام هذا القانون». يقول أحد المسؤولين الماليين إنّ هذه المادة «وُضعت لرفع العتب، فالصندوق لم يُفعّل يوماً، وأصلاً لا يُمكن أن يُنشأ بمعزل عن استراتيجية مُتكاملة». وأحد الأدّلة على عدم جدّية الدولة اللبنانية بما خصّ «الصندوق» يظهر في قيمة المبالغ «المُتدنية التي كانت تُلحظ له في الموازنات، والتي لم تُصرف يوماً». بالنسبة إلى مارون الحلو، أحد الحلول الواجب طرحها هي «تعديل قانون الإيجارات، وتخصيص مناطق سكنية للعاملين في بيروت حتى لا يتكبدوا مشقة التنقلات، وتكون بمتناول قدراتهم المادية».
في كتابه، «المال.. إن حَكم. جذورٌ مُهدّدة بالزوال»، يسرد الوزير الراحل هنري إده أنّه «قبل سنة 1975، كان لوسط بيروت وظيفة اجتماعية واضحة وبارزة، ولكنّها كانت قائمة على قانون استثنائي يؤبّد بدلات الإيجار ويُثبّتها في مستويات منخفضة بصورة غير عادية. وبعد إعادة إعمار هذا الوسط، لن يتمكّن سكّانه ذوو الدخل المتواضع من العودة إليه إلّا إذا قبلت الدولة أن تأخذ على عاتقها إعادة سكنهم، وهو شرط بعيد الاحتمال». أولياء الدولة اللبنانية، من ضمنهم سلطة رأس المال، تآمروا على السكّان، لا في وسط بيروت وحسب، بل في كل لبنان، فلم يُعيدوا إسكانهم ولم يؤمنوا مساكن للأجيال المتعاقبة. يقول المسؤول المالي إنّ «الخطأ الجسيم حصل مع دفع الناس للتملّك، لإنجاح سياسة المصرف المركزي في توزيع القروض. المنطق حالياً، أن تنخفض أسعار العقارات، وتعود الناس للإيجار».