ما إن أقرّ مجلس الوزراء مرسوم مشروع قانون الضريبة على القروض المُسدّدة بأقل من قيمتها الفعليّة، حتّى ثارت ثائرة الهيئات الاقتصاديّة وبعض الأوساط التجاريّة، بالإضافة إلى المطورين العقاريين وتجّار البناء. وطوال الأيّام الماضية، شنّت هذه الأطراف حملة إعلاميّة قاسية ضد مشروع القانون، وهو ما يوحي بأنّ مسار إقراره في المجلس النيابي سيكون مليئًا بالعراقيل والأفخاخ، التي لطالما نُصبت في وجه أي تشريع يمكن أن يمس بمصالح الفئات النافذة ماليًا. وفي واقع الأمر، كانت هذه الاعتراضات متوقّعة منذ البداية، بحكم استفادة الكثير من التجّار -وخصوصًا تجّار البناء والعقارات- من تسديد القروض بأقل من قيمتها، طوال السنوات الماضية. ومع ذلك، يبقى من المهم تفنيد الحجج الدستوريّة والقانونيّة التي ساقها هؤلاء ضد القانون المطروح، استباقًا لمحاولات إسقاطه في المجلس النيابي.
في البداية، من المهم الإشارة إلى أنّ هناك أكثر من 30 مليار دولار أميركي من القروض التي تمّ تسديدها منذ حصول الانهيار المالي في أواخر 2019 (راجع المدن)، فيما تمّ إيفاء جلّها بالشيكات المصرفيّة أو بالليرة على أساس سعر الصرف الرسمي. وهذا ما سمح لكبار المقترضين بتحقيق أرباح ضخمة، من الفارق بين قيمة الدين الفعليّة وقيمة السداد. ومن شأن الضريبة التصاعديّة التي تتراوح بين 4% و25% على هذه الأرباح أن تحصّل مبلغًا يصل إلى حدود 3 مليار دولار، حتّى بعد استثناء القروض الاستهلاكيّة التي تقل قيمتها عن 100 ألف دولار. وفي المحصّلة، يمكن استعمال هذه الضريبة لإطفاء جزء من إلتزامات الدولة للمصرف المركزي، في إطار صندوق استرداد الودائع الذي تراهن عليه الحكومة.
أوّل خطوة على طريق توزيع الخسائر
بل الدخول في الجانبين القانوني والدستوري، وتفنيد المزاعم المعترضة على مشروع القانون، من المهم الإشارة هنا إلى أنّ الفكرة تمثّل بحد ذاتها أوّل خطوة واقعيّة على طريق توزيع الخسائر، رغم أنّها لا تمثّل فعليًا إلّا جزء صغير جدًا من المسار المأمول.
فقيام كبار المقترضين والتجّار بتسديد القروض المدولرة بسعر الصرف الرسمي، الذي لم يوازِ أكثر من 1.5% من سعر الصرف الواقعي في السوق، مثّل أحد أبرز مصادر الخسائر التي تراكمت في ميزانيّات القطاع المصرفي مجتمعًا. وكما هو معلوم، سمحت المصارف بتسديد القروض على هذا النحو بالنسبة لجميع القروض الاستهلاكيّة الصغيرة (المستثناة من الضريبة بالمناسبة)، لكنّ تسديد القروض التجاريّة الضخمة بالليرة وبالسعر الرسمي، لم يكن متاحًا إلّا لحلقة ضيّقة من أصحاب النفوذ.
على المقلب الآخر، لم يكن هناك الكثير من الاستنسابيّة في عمليّة تسديد القروض بالشيكات المصرفيّة، التي كان يتم تداولها في السوق بحسومات كبيرة من قيمتها الأصليّة. ومع ذلك، كانت آليّة تداول هذه الشيكات تحمّل المودع –بائع الشيك- نسبة خسارة وصلت إلى 90% من قيمة “اللولار” (الدولار المحلّي) في بعض المراحل، في مقابل ربح موازٍ بالنسبة للمقترضين، الذين اشتروا هذه الشيكات لتسديد قروضهم. وعلى هذا الأساس، كان من المنطقي والعادل وجود تدخّل رسمي ما، لتطبيق هذه الضريبة “التضامنيّة” التي تقلّص –ولو بشكل ضئيل- من حجم الخسائر التي تحمّلها المودع، مقابل تحميل كبار المقترضين قيمة موازية وضئيلة –مقارنة بأرباحهم من السداد- من هذه الخسائر.
أمّا الأهم، فهو أنّ الآليّة المقترحة عادلة من ناحية تعاملها بشكل متوازن مع المقترضين. فإعفاء القروض المسددة من الضريبة لغاية مئة ألف دولار، ومن ثم تحميل الضريبة بشكل تصاعدي للشرائح الأعلى، ابتداءً من 4% فقط للشريحة الأولى، يقلّص جدًا من الكلفة التي يتحمّلها أصحاب القروض الاستهلاكيّة، وخصوصًا القروض السكنيّة. إذ من الطبيعي أن يحاول مشروع القانون تقليص الكلفة على هؤلاء، لكون قروضهم لم تتسم بطابع تجاري أو ربحي، مقارنة بأصحاب التسهيلات والقروض التجاريّة الضخمة الذين حققوا أرباحاً فعليّة من عمليّات التسديد بالليرة أو بالشيكات المصرفيّة.
وفي الوقت نفسه، من الضروري لفت النظر إلى أنّ آليّة تطبيق الضريبة لن تطال حجم القرض المُسدد بشكل اعتباطي، بمعزل عن تاريخ التسديد وسعر الصرف الرائج في السوق في ذلك الوقت (أي حجم الربح من تسديد القرض). بل وعلى العكس تمامًا، ستطال نسبة الضريبة الربح المحقق فقط من التسديد، أي الفارق بين قيمة القرض الفعليّة، وكلفة السداد بالليرة أو الشيك المصرفي، بحسب تاريخ التسديد.
وبخلاف طروحات الهيئات الاقتصاديّة وجمعيّة المصارف السابقة، التي طالبت بتحميل دافعي الضرائب جلّ الخسائر الناتجة عن الانهيار المصرفي، يذهب القانون المقترح إلى التعامل مع مصدر تراكم الخسائر، لإعادة توزيع الخسائر بحسب مصدرها. ولهذا السبب، قد تشكّل هذه الخطوة المتقدّمة –رغم تواضع حجمها المالي- سابقة يُبنى عليها للقيام بمعالجات أخرى مشابهة، من قبيل استرداد جزء من أرباح الهندسات الماليّة، أو الفوائد الفاحشة التي استفادت منها حلقة ضيّقة من أصحاب النفوذ، أو فرض إجراءات معيّنة على الفئات التي استفادت من الدعم غير المشروع وتهريب الأموال والتهرّب الضريبي…إلخ.
ببساطة، ورغم أنّ مشروع القانون لا يقدّم سوى جزء صغير جدًا من الحل الشامل، لكنّ المهم في هذا الطرح هو المقاربة المستجدة نفسها، التي يمكن تطبيقها لاحقًا على سائر الفئات التي استفادت من تراكم الخسائر، والتي يفترض أن تتحمّل نصيبها من كلفة الحل الشامل.
تفنيد الحجج المعارضة للقانون
تحاجج الأطراف المعترضة على مشروع القانون، وهي نفسها الأطراف التجاريّة التي تربّحت من سداد القروض بأقل من قيمتها الفعليّة، بأنّ القانون جرى “سلقه” على عجل، قبل اتضاح الصورة على مستوى الشكل القانوني لصندوق استرداد الودائع، وقبل بلورة تصوّر كامل لعمليّة توزيع الخسائر. وهذا صحيح طبعًا، إذ كان من المحبّذ أن يندرج هذا الإجراء ضمن سلّة أوسع وأشمل من المعالجات، التي تضمن –في خلاصتها- إعادة انتظام القطاع المصرفي.
إلا أنّ المطالبة بإرجاء إقرار القانون، بانتظار وضع الخطّة الشاملة، هو كلام حق يُراد به باطل. فكما هو معروف، وحسب قانون الإجراءات الضريبيّة، تسقط حقوق الخزينة الضريبيّة بعد خمس سنوات من تاريخ تحقق الإيراد، في حال لم تطالب وزارة الماليّة بهذه الضريبة. ولذلك، وبعد مرور أربع سنوات على حصول الانهيار، باتت الحكومة مضطرّة اليوم لصياغة هذا القانون ومحاولة تمريره في المجلس، لتتمكّن وزارة الماليّة –في السنة الخامسة- من ملاحقة هذه الضريبة المقترحة، من دون مخالفة قانون الإجراءات الضريبيّة. ببساطة شديدة، لم يكن الاستعجال في صياغة القانون اليوم عبثيًا، بل ارتبط بمهلة تحصيل حقوق الخزينة الضريبيّة.
يسوق المعترضون كذلك حجّة “عبثيّة” مشروع القانون و”عدم واقعيّته”، وعدم قدرته على جمع المبالغ التي يجري الحديث عنها، بسبب صعوبة تحصيل هذه الضريبة. وفي الواقع، وبخلاف ما يقوله هؤلاء، تمكّن التعديلات الأخيرة على قانون سريّة المصارف الإدارة الضريبيّة من جمع كل المعلومات المصرفيّة المرتبطة بالقروض المشمولة بمشروع القانون. ويمكن لآليّة تحقّق وتحصيل بسيطة جدًا، أن تسمح للإدارة الضريبيّة بتتبع هذه الضريبة المفروضة على المكلّفين. مع الإشارة إلى أنّ الغالبيّة الساحقة من القروض التجاريّة الكبيرة كانت مربوطة برهونات عقاريّة، وهو ما سيدفع التجّار إلى التجاوب مع مساعي التحصيل الضريبي، تفاديًا للإشارات والحجوزات العقاريّة التي يمكن أن تطال هذه العقارات، التي جرى فك الرهن عنها مؤخرًا.
بصورة أوضح، يمكن القول أنّ هذا الإجراء يمثّل الطرح الأكثر واقعيّة والأكثر قابليّة للتطبيق، من بين جميع المقترحات التي تمّ وضعها على الطاولة مؤخّرًا. وربما هذا ما يدفع المتضررين من مشروع القانون لشن الحملة الإعلاميّة الشرسة في وجه هذه الضريبة. فلو كان التهرّب من هذا الإجراء الضريبي مسألة سهلة، كحال التهرّب من الرسوم الجمركيّة والضريبة على القيمة المضافة وضريبة الدخل، لما بُذل كل هذا الجهد لإسقاط مشروع القانون. ولو كان الإجراء عبثيًا ويصعب فرضه، كما يدّعي المتضرّرون منه، لتساهل التجّار معه، تمامًا كما فعلوا عند تصحيح سعر صرف الجباية الضريبيّة والجمركيّة.
حجّة المفعول الرجعي وتعاميم مصرف لبنان
أمّا الحجّة القانونيّة الأبرز ضد مشروع القانون، فهي رفضه بوصفه تشريعاً “بمفعول رجعي”، أي لكونه يرتّب إلتزامات ضريبيّة جديدة على أنشطة حصلت في الماضي. وهذا الكلام مجددًا يتعارض مع الواقع. فالفارق بين قيمة الدين الفعليّة، وقيمة سداده بسعر الصرف القديم أو بالشيكات المصرفيّة، هي فعليًا ربح حقيقي محقّق بالمفهوم المحاسبي. وعلى هذا الأساس، كان من المتوجّب على المستفيدين من هذا الربح سداد ضريبة الدخل التصاعديّة، بمعزل عن وجود مشروع القانون الجديد.
بهذا المعنى، لا يستحدث مشروع القانون الجديد ضريبة جديدة من العدم، بل يحدّد آليّة سداد الضريبة التصاعديّة التي كان من المفترض أن تحصّلها وزارة الماليّة طوال السنوات الماضية، من دون أن يتم ذلك بسبب فوضى سوق القطع. بل وأكثر من ذلك، يمكن النظر إلى القانون من زاوية كونه إعفاءً للتجّار من غرامات عدم تسديد هذه الضريبة، وإعفاءً لأصحاب القروض الصغيرة من الضريبة نفسها.
هكذا، لا يبقى أمام المعترضين على مشروع القانون سوى الاستنجاد بتعاميم مصرف لبنان، التي شرّعت تسديد القروض على هذا النحو. وهذا طبعًا صحيح، إذا ما كنّا ننظر هنا إلى مشروعيّة إيفاء الدين للمصرف، وهو ما لا يتطرّق له مشروع القانون. فمشروع القانون لا يقارب قانونيّة تسديد الدين نفسه، بل يقارب الموجب الضريبي المتوجّب على الربح من إيفاء الدين، وهذا ما لا يرتبط بتعاميم مصرف لبنان، ولا بصلاحيّات حاكم مصرف لبنان نفسه، لا من قريب ولا من بعيد.
في النتيجة، من المفترض أن يُعاد تكرار كل هذه الحجج تحت قبّة المجلس النيابي، مع شروع لجنة المال والموازنة بدارسة مشروع القانون، هذا إذا قرّرت اللجنة وضع مشروع القانون على جدول أعمالها في القريب العاجل. ما يُخشى منه اليوم، هو تأثير اللوبي المالي داخل المجلس النيابي، الذي لطالما تمكّن من الإطاحة بالكثير من مشاريع القوانين التي تعارض مصالحه وحساباته. كما ثمّة خشية من عدم تمكن المجلس من الإلتئام والتشريع قبل نهاية السنة، ما يعني دخول السنة المقبلة من دون تمكين الإدارة الضريبيّة من تتبّع أرباح هذه القروض، وهو ما يمهّد لإسقاط حقوق الخزينة الضريبة بالنسبة للقروض التي جرى تسديدها في بدايات الأزمة.