يكتسب موضوع الكهرباء أهمية مضاعفة في الفترة الأخيرة بحيث أصبح يعتبر أحد المواضيع الحيوية بالنسبة إلى المواطن اللبناني، نظراً لاختراقه تفاصيل الحياة اليومية وانتهاكه أبسط مقومات وحقوق العيش الكريم التي تكرّسها المواثيق الدولية المعنيّة بحقوق الإنسان. سنوات مرّت على انتهاء الحرب الأهلية التي دمّرت أسس البنى التحتية للطاقة وصولاً إلى السنوات الأخيرة التي استمرّت في سياسة تدمير ما تبقّى منها في ظل غياب أي مشروع للإستثمار في تأهيلها.
ففي الوقت الذي تنعم فيه أغلب دول العالم الثالث بتأمين الكهرباء لشعوبها، يعيش لبنان في العتمة الخانقة التي تترنّح بين استبداد المولّدات الخاصة التي أرهقت جيوب اللبنانيين الذين فضّل عدد كبير منهم الإستغناء عن خدماتها نظراً لعدم قدرتهم على تأمين فواتيرها الباهظة من جهة. وبين زيادة في التعرفة أقرّتها الدولة دون تأمين خطوات فعّالة لزيادة التغذية من خلال تطوير القطاع وسط خلافات سياسية تعرقل عملية إصلاحه من جهة أخرى، فكانت النتيجة كارثية.
وقائع وأسباب
ليست أزمة الكهرباء بجديدة في لبنان، إلا أن السنتين الماضيتين شهدتا عجزاً كبيراً لجهة الخدمات التي تقدّمها مؤسسة كهرباء لبنان بحيث ازدادت وتيرة انقطاع التيار الكهربائي التي وصلت إلى نحو عشرين ساعة انقطاع يومياً، وسط أزمة اقتصادية ومالية خانقة لم يشهد لبنان مثيلاً لها بتاريخه.
أسباب عديدة ومتراكمة أوصلت القطاع إلى ما هو عليه اليوم، تأتي جميعها تحت عنوان «سوء نظام الإدارة العامة للقطاع» بحيث أوصله ليكون المساهم الأكبر في تنامي فاتورة الدين العام التي تخطت عتبة المئة مليار دولار نظراً لعبئه الثقيل على الخزينة العامة بحيث ساهم باستنزافها بأكثر من 24 مليار دولار كما أوضحت بيانات المصرف المركزي. فبحسب البنك الدولي تتلخّص أسباب العجز في سوء الإدارة، وضعف القدرات المؤسسية والإدارية والفنية، بالإضافة إلى النقص الكبير في الإستثمارات المرتبطة بالتشغيل والصيانة وتأمين بنية تحتية جديدة ومناسبة.
بحيث أعلن ممثلو الهيئات المالية الدولية مراراً أن تشكيل هيئة ناظمة للكهرباء تتمتع باستقلالية وشفافية تامة في بياناتها المالية يعتبر الخطوة الأولى المطلوبة لإطلاق عجلة القطاع وتوجيهه الوجهة المطلوبة للنهوض. إذ لطالما طالبت تلك المؤسسات بإعادة هيكلة قطاع الكهرباء كخطوة أساسية للبدء بخطة التعافي في لبنان، إلا أن السلطة السياسية فشلت حتى اللحظة في الشروع بمجموعة إصلاحات طلبها صندوق النقد الدولي كشرط أساسي للموافقة على مجموعة تدابير للإنقاذ.
الهيئة الناظمة
فضلاً عن التجاذبات السياسية التي تؤخّر عملية إنشاء سلطة تنظيمية للقطاع كما هو منصوص عليه في قانون «تنظيم قطاع الكهرباء» رقم 462 الذي تمّ إقراره في العام 2002، من خلال تعيين هيئة ناظمة لقطاع الكهرباء تضمّ خبراء ومسؤولين حكوميين. إن إنشاء هذه الهيئة يعني تسليمها صلاحيات واسعة في مجال إدارة قطاع الكهرباء في لبنان في وقت كانت تلك الصلاحيات في يد وزير الطاقة. الأمر الذي أدّى إلى اختلاف المكوّنات السياسية حول آلية تعيين الهيئة وبالتالي حول نظامها وصلاحياتها، في ظل التعارض الواضح بالأولويات والتوجهات السياسية والتشابك الدقيق بالمصالح والمنافع الضيقة على حساب المصلحة العامة وانتظام عمل مؤسسات الدولة.
معامل قديمة وجباية ضعيفة
كما أدّى سوء الإدارة واستخدام معامل قديمة ذات كفاءة متدنية وكلفة تشغيلة مرتفعة إلى تشكّل نسبة كبيرة من الهدر تصل إلى حوالي 16% كهدر فني و21% كهدر غير فني وذلك بحسب مصادر وزارة الطاقة. ومن الأمور التي ساهمت أيضاً بتفاقم الأزمة، ما يرتبط إلى حدّ كبير بالأثر الذي تركه النازحون السوريون على القطاع، لجهة ارتفاع نسبة الطلب على الإستهلاك بشكل ملحوظ في ظل وجود بنى تحتية متواضعة، بحيث يقدّر استهلاكهم بأكثر من 500 ميغاواط بحسب تقارير وزارة الطاقة والمياه في لبنان.
إن مسألة ضعف الجباية تأخذ أبعاداً خطيرة لجهة المساهمة في تدمير القطاع وتراجع فعالية أداء مؤسسة كهرباء لبنان في إدارة ملف الكهرباء. ما يساهم بتقليص الواردات التي تدخل الخزينة العامة وتراجع العدالة الاجتماعية ومفهوم المواطنة بحيث يقع عبء الدفع على قسم من اللبنانيين دون الآخر، الأمر الذي يستوجب وبشكل ملحّ تعزيز بسط الدولة سلطتها على كامل أراضيها وصياغة خطة فعّالة ومدعومة بغطاء سياسي وأمني جدّي من مختلف الأطراف لرفع التعديات عن شبكة الكهرباء.
نتائج كارثية
حسب تقرير «هيومن رايتس واتش» الصادر في التاسع من آذار 2023، فإن أزمة الكهرباء أدّت إلى تفاقم عدم المساواة والفقر بين اللبنانيين بسبب عدم قدرتهم على الحصول على أبسط حقوقهم الأساسية والمشروعة. كما ساهمت الأزمة وبشكل كبير في ارتفاع نسبة تلوّث الهواء الذي ينعكس سلباً على صحة الإنسان والبيئة على حدّ سواء. فضلاً عن أن انتشار خدمة المولدات الكهربائية الخاصة أدّى إلى إنفاق قسم كبير من الدخل الفردي عليها.
لقد أدّى العجز الحكومي والأزمة المالية الخانقة إلى حصول نقص في تأمين مادة الفيول بسبب المماطلة في تحويل الأموال بالعملة الأجنبية من مصرف لبنان إلى الشركات المستوردة للنفط من خلال التأخر في تأمين سلف الخزينة التي تعاني من عجز كبير على ضوء الأزمة المالية وتدهور سعر صرف الليرة اللبنانية. كذلك أدّى العجز إلى التأخر بدفع مستحقات الشركات المشغلة لأكبر معامل إنتاج الكهرباء في لبنان (لا سيما محطات دير عمار، الزهراني، الذوق والجية) فضلاً عن العجز في تأمين ثمن الفيول اللازم لتشغيلها، الأمر الذي أدّى إلى تراجع بالتغذية الكهربائية بشكل كبير.
فبحسب البنك الدولي، ساهم سوء إدارة القطاع بتدني نوعية الخدمات التي تقدّمها مؤسسة كهرباء لبنان إلى المستهلكين الذين فقدوا الثقة بالقطاع، كما ساهم بزيادة الكلفة الإجمالية للكهرباء مقابل تراجع مستويات إسترداد التكاليف في ظل تنامي مشكلة ضعف الجباية. الأمر الذي أدى إلى اعتماد القطاع الكامل على الدعم من الميزانية العامة للدولة الذي يقدّر بمليارات الدولارات من جهة كما أدى إلى اعتماد القطاع وبشكل كبير على المولّدات الخاصة ذات التكلفة المادية والبيئية المرتفعة.
بوادر حلول وعقبات
على مرّ السنوات قدّمت الحكومات المتعاقبة وعوداً كثيرة تتعلّق بإصلاح قطاع الكهرباء في لبنان، لكن دون جدوى. بحيث إقتصرت الحلول حتى الآن على الحلول الآنية والمؤقتة في ظل غياب الرؤية والإفتقار إلى استراتيجية علميّة فعّالة ومستدامة بعيدة المدى. تبقى هذه الحلول عالقة بين إصلاحات إدارية جديّة وشروط دولية تؤخّر عمليّة الحل المستدام والشامل في ظل تجاذبات سياسيّة ترخي بظلالها سلباً على مسار نهوض القطاع وبالتالي تنفيذ الخطة الإصلاحية.
وفي ظل غياب إرادة جدية للإصلاح إقتصرت معالجة المشكلة من قبل الحكومات المتعاقبة على البحث عن بدائل مؤقتة لتأمين زيادة مؤقتة وطفيفة في التغذية الكهربائية وبالتالي للتخفيف من حدة الأزمة. كان آخرها خطة الطوارئ التي أعلنها وزير الطاقة وليد فياض بالإضافة إلى سلسلة المباحثات التي أطلقها الوزير مع الدول المجاورة كخطوة أولى للبدء بالحلّ.
فبتاريخ 18 كانون الثاني 2023، وبعدما توقّفت عدة معامل عن العمل، وكمرحلة أولى من خطة الطوارئ المذكورة، وافقت الحكومة على سلفة من مصرف لبنان وقيمتها 62 مليون دولار اللازمة لتأمين ثمن شراء الوقود، كما تم تكليف لجنة وزارية للعمل على متابعة ملف الكهرباء والطاقة.
كما تمّ في الفترة السابقة تمديد الإتفاقية الموقّعة مع العراق منذ العام 2021 لمدّة سنة جديدة، والتي كانت تقضي بإمداد لبنان بالوقود اللازم لتشغيل معامل الكهرباء بما يقدّر بحوالي 75 إلى 85 ألف طن شهرياً بحيث تمّ الاتفاق على زيادة الكمية لتصبح مليوني طن سنوياً مقابل التزام لبنان بتأمين احتياجات العراق من السلع والخدمات الطبية والتعليمية والتجارية المختلفة بما يعادل قيمة العقد.
المبادرات الدولية
من جهة أخرى فإن المبادرات الدولية لم تغب عن المشهد الطاقوي، لا سيما مشروع البنك الدولي الذي من شأنه تأمين الكهرباء من خلال خطتي استجرار الكهرباء من الأردن والغاز الطبيعي من مصر عبر سوريا لدعم شبكة الكهرباء في لبنان. فهذا المشروع الذي تمّ توقيعه بين كل من الدول المعنية (لبنان، سوريا، الأردن ومصر) ينتظر تمويل البنك الدولي الذي يعرقله الغياب الجدي لأي نية للشروع بالإصلاحات.
هذا الحل الذي اقترحه البنك الدولي سيؤمّن حوالي 450 ميغاواطاً من خلال مشروع الغاز المصري وحوالي 250 ميغاواطاً من خلال مشروع إستجرار الكهرباء من المملكة الأردنية. فمجموع تلك المشاريع مضافةً عليها كمية التغطية التي يتم إنتاجها في لبنان، من المتوقع أن تؤمّن الكهرباء لنحو 9 إلى 10 ساعات يومياً.
من هنا التعويل على الغاز اللبناني الذي سيتم إنتاجه في المستقبل من خلال استغلال الثروة البترولية المتواجدة في البحر اللبناني. فالحل لا يمكنه أن ينتظر حوالي أربع سنوات لحينه، لذلك لا بد من الإسراع بالبت بالحلول الجدية كي لا يبقى لبنان أسير العتمة. مع العلم بأن تحسين الجباية ووقف الهدر يساهمان بحل جزء مهمّ من المشكلة. وهل سيكون الحل بالخصخصة؟
بالحدّ الأدنى فإن التعاون بين القطاعين العام والخاص في موضوع الكهرباء ممكن أن يساهم بتنمية القطاع وتطوّره لجهة الإستفادة من خبرات ونجاحات القطاع الخاص في هذا المجال. خاصة وأن تجارب الدولة في إدارة المرافق العامة غير مشجعة، فالواضح أن الحل الشامل لن يكون سريعاً وقريباً…