لم يكن وقوع القطاع المصرفي اللبناني برمّته في تيار الأزمة الجارف إلا مسألة وقت. الرهان على قدراته العجائبية وتضامنه الفذ لخوض «بحر» توزيع الخسائر من دون أن يبتل بنقطة ماء واحدة فشل فشلاً ذريعاً. مع كل خطة تُقترح كان القطاع يغرق أكثر في «يمّ» الافلاس، حتى كادت «مياه» اقتطاع الرساميل تلامس «مناخيره»، مهددة بقطع الانفاس عنه. في هذه المرحلة، أصبح هم كل فئة منه أن تنجو بنفسها. ففقدت المصارف وحدتها وراحت تبحث فرادة عما ينفعها.
سجالات بين الحاكم والمصارف
في الوقت الذي كان يفتح فيه عضو جمعية المصارف تنال الصباح «النار» على حاكم مصرف لبنان باعتباره «جزءاً من المنظومة اللبنانية ويعمل لمصلحة السلطة السياسية»، كانت إحدى المنصات الإعلامية التي تدور في فلك زميل له تفتح صفحاتها للحاكم ليبرئ نفسه من «دم» الودائع. إذ اعتبر الحاكم رياض سلامة في حديث لموقع «Ici Beyrouth» القريب من المصرفي أنطون الصحناوي أنه جرى «بين العامين 2017 و 2022، تسديد 24 مليار دولار «فريش» إضافية للمصارف. فلا يقولنّ أحد أن مصرف لبنان هو الذي بدد أموال المودعين». قبلها في وقت قصير رد الحاكم على حملة جمعية المصارف بعدم جواز المس بالاحتياطي الإلزامي، والتي توجتها في كتاب رسمي في 4 نيسان 2022 بانه «في ظل غياب أي نص قانوني واضح يحدد طريقة تسديد أموال المصارف المودعة أو الموظفة لدى مصرف لبنان، يمكن له وبغية تسديد قيمة هذه الاموال عند استحقاقها إلى المصارف المعنية بالليرة وعلى سعر صرف يحدده هو». وفي وقت ليس ببعيد أيضاً، فنّد الامين العام السابق لجمعية المصارف مكرم صادر سياسة «المركزي» منذ 1993 ولغاية 2021 في مقال حمل عنوان «توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان: القصة الشائعة والحقيقية»، التي كانت نتيجتها برأيه إجبار المصارف بطريقة أو أخرى على توظيف النسبة الاكبر من الودائع لدى المركزي».
المواجهة مع صندوق النقد
رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق د. باتريك مارديني يوافق على أن المشكلة الاساسية والكبيرة هي بين المصارف والحكومة، ولو أن بعضاً من المصارف يحمّل مجلس إدارة الجمعية المسؤولية نتيجة عدم مجابهتها الطروحات بشكل فذ. وبحسب مارديني «فان الحكومة التي انجزت خطتها للتعافي المالي، واتفقت مع فريق صندوق النقد الدولي على التفاصيل، تعتزم شطب رساميل المصارف إضافة الى جزء كبير من أموال المودعين في إطار توزيع الخسائر. وهو ما سيشكل عنواناً كبيراً للمواجهة في حال قررت الحكومة المقبلة السير بالطرح نفسه، والتوقيع مع الصندوق على أساسه. فشطب الرساميل يعني ببساطة أن المصارف لم تعد لاصحابها. وعليه من غير المستبعد أن تدخل المصارف في مشروع جدي لاسقاط الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وتعيد الامور إلى نقطة الصفر من جديد».
الرسملة أو الافلاس
ما يطرح على اصحاب المصارف اليوم يقوم على ركيزتين: إما الرسملة بالدولارات النقدية الطازجة و»النفاذ» بمؤسساتهم، وإما الخروج من السوق. المعادلة البسيطة جداً والواضحة بالنسبة لحكومة الرئيس ميقاتي ومن خلفها صندوق النقد الدولي، لكونها تنطلق من تراتبية الحقوق والمطالب لن تمر مرور الكرام على المصارف. وهذا قد يكون أخطر ما سيواجه لبنان في المرحلة المقبلة، فعلى «الرغم من التحفظ على بعض طروحات صندوق النقد بشكل عام، وبما يتعلق بلبنان بشكل خاص، فان إسقاط الاتفاق ستكون له نتائج بالغة الخطورة على البلد وإمكانية تعافية. خصوصاً أن التجربة أثبتت بما لا يقبل النقض أن لبنان قاصر على القيام بأي إصلاح من تلقاء نفسه. وعليه فان العلاقة مع صندوق النقد هي الحل الوحيد لانجاز الاصلاحات. أمّا قطع حبل النجاة الوحيد الذي يرميه الصندوق سيكون بمثابة «نجني» على لبنان كله لحماية قطاع متهالك. مع العلم أن هناك بعض المصارف تفكر جدياً بالذهاب في اتجاه مجابهة طروحات صندوق النقد الدولي ولو أن هذا الامر يذهب بالبلد إلى الهاوية».
نتائج التدقيق معروفة سلفاً
تصدي المصارف لطروحات الحكومة المتوافق عليها مع صندوق النقد الدولي لا يقتصر على الخوف من شطبها، إنما أيضا لانها «شروط إخضاع تتعلق بانعدام الثقة وليست شروطاً مهنية»، بحسب الخبير الاقتصادي والمصرفي جو سروع. «فاشتراط تقييم 14 مصرفاً تشكل نحو 85 في المئة من حجم القطاع المصرفي من قبل شركات تدقيق دولية لإظهار إن كانت هناك «ودائع إجرامية» criminal deposits وتحديد ملاءتها والاموال المهربة وقدرتها على الاستمرار ستكون سلبية حتماً، وستعرضها للافلاس فوراً. إذ لا داعي للتكلف على شركات تدقيق دولية ومحلية وإخضاع المصارف للتقييم إذا لم تعترف الدولة أن للمصارف حقوقاً لديها عبارة عن ديون «اليوروبوندز»، ولم يعترف مصرف لبنان بتوظيفاتها لديه التي تتجاوز 80 مليار دولار، هذا عدا عن التوظيفات بالليرة». وعليه يسأل سروع كيف من الممكن أن تقبل المصارف بافلاسها مع ما سترتبه هذه العملية من تبعات خطيرة على حقوق المودعين، وهي تعلم أن لديها حقوقاً لدى الدولة ومصرف لبنان. فأين المنطق وأين العدل؟!
قانون جديد هجين
مادة خلافية جديدة قد تظهر إلى العلن في الايام القادمة تتمثل في «التحضير على أرفع المستويات لتعديل قوانين اعادة هيكلة المصارف بشكل أن تدمج القوانين الجديدة بين الافلاس والتصفية»، بحسب مصدر مطلع. و»إن كانت العملية ما زالت للحظة تحاط بسرية تامة، فهي تطرح تساؤلات عن هذه الخلطة التي سيخرج بها معدوها في السلطتين السياسية والنقدية وموقف المصارف منها. ففي الافلاس تحتسب الاصول مع حقوق المساهمين وكبار المدراء وتوزع على المطلوبات أي على المودعين بوصفهم الدائنين. ومن الاصول التي يأخذها وكيل التفليسة والمدير الموَقت المعين ديون المصرف على الدولة وعلى مصرف لبنان. ومن واجبهما المطالبة بها وتحصيلها كما يحصلون الاموال من عملية تصفية الاصول ملاحقة المساهمين بأموالهم الشخصية. في حين أن للتصفية متطلبات أخرى. والجمع بين المفهومين سيكون بمثابة تركيبة هجينة معروف أولها ولا يمكن توقع نهايتها، هدفها الابقاء على انكار موجودات المصارف لدى الدولة ومصرف لبنان. بمعنى آخر تبرئة ذمة «المركزي» والدولة على حساب القطاع المصرفي».
حلول سريعة وسيئة
بشكل عام فان كل الحلول التي تطرح اليوم تأخرت ثلاث سنوات كحد أدنى وأصبحت أصعب على الجميع بما لا يقاس نتيجة القضاء على الاحتياطيات، وتضييع الثقة، والعمل وفقاً لسياسة «quick and dirty solution «، برأي سروع. بما تعني هذه السياسات من عجز عن تطبيق الحلول المستدامة واللجوء إلى الحلول الآنية السريعة ذات الكلفة العالية والفعالية المنخفضة. وهذا ما رأيناه في المنصات 1 و2 و3 التي انشأها مصرف لبنان، والدعم، واستمرار التدخل في سوق القطع، وعدم القيام بالاصلاحات الضرورية وتضييع الفرص الواحدة تلو الاخرى… والقائمة تطول من إجراءات غب الطلب عمّقت الازمة وأفقدت الاقتصاد القدرة على الانطلاق. وعلى ما يظهر فان الامور ذاهبة في القادم من الايام بالاتجاه نفسه مع عقم فاضح عن اتخاذ الاجراءات الانقاذية.
أصحاب البنوك غير موحّدين… لكنهم منصاعون جميعاً لمصرف لبنان
مراقبون لموقف المصارف، يقسمون القطاع إلى 3 فئات:
الاولى، هي المصارف التي ما زالت تنضوي تحت جناح حاكم مصرف لبنان وتنصاع لسياساته. وهي تعد على أصابع اليد الواحدة.
الثانية، مصارف تحمّل البنك المركزي مسؤولية تضييع الودائع وتطالبه بعدم الانصياع لخطة شطب الرساميل.
الثالثة، مصارف على درب الاقفال، همها الاول الخروج من السوق بأقل خسائر ممكنة.
لكن رغم الاختلاف في وجهات النظر على مصير المتبقي من التوظيفات الإلزامية وكيفية توزيع الخسائر، «فان لكل صاحب مصرف خصوصيته وعلاقاته وارتباطاته مع السلطتين السياسية والنقدية التي تؤثر على موقفه»، بحسب مصدر مصرفي. ومع هذا فان «الفئات الثلاث لا تستطيع الخروج من «بيت طاعة» المصرف المركزي. فأموالهم عنده، وهو من يملك السيولة بالليرة والدولار ويصدر التعاميم. وعليه فالمصارف واصحابها محكومين بالتوافق معه، ولو رفع بعضهم السقوف في الاعلام نتيجة الضغوطات والقهر مما وصلت إليه الحال». وبحسب المصدر فان «تحجج مصرف لبنان باقراض أموال المودعين التي تفوق 75 مليار دولار للدولة، سواء كان بشكل مباشر أو نتيجة تدخله بسوق القطع، يجب أن يكون المنطلق لموقف موحد بين المصارف و»المركزي» يحمّل الدولة مسؤولية إرجاع الاموال، ويرفض بالطبع شطب الديون. وهذا على ما يبدو أنه يطبخ على نار هادئة لنقل الخلاف بين القطاع المصرفي بين بعضه البعض، إلى خلاف مع الدولة. فـ»المركزي» يعرف تمام المعرفة بان تسديد الودائع للمصارف بالليرة على سعر صرف غير حقيقي، سيجبر الاخيرة على تسديدها للمودعين بنفس الطريقة. وبالتالي تكون المشكلة قد انتهت. كما أنه يعلم أن دفع مليارات الدولارات خلال الاعوام 2017 – 2021 لم يكن إرجاعاً للودائع إنما اعتمادات مستندية فتحت للتجار والمستوردين للتسديد عنهم في المصارف المراسلة الاجنبية بعدما دفعوا للمستوردين داخلياً بالدولار المحلي. ويخلص المصدر المصرفي إلى ان «محاولات مجاراة السلطة لم تعد تنفع للخروج من الازمة. فالارقام والوقائع واضحة والمطلوب موقف موحد وضاغط لعدم ضياع الحقوق».