ثمّة ثلاث مسائل مهمّة غالبًا ما يتم تجاهلها، في مضمون عقود إصدار سندات اليوروبوند اللبنانيّة، التي تحكم علاقة لبنان مع دائنيه الأجانب. أوّلها، هي أنّ جميع السندات، بمعزل عن تاريخ استحقاقها، تصبح مستحقّة فورًا وحكمًا بمجرّد تخلّف الدولة عن السداد عند استحقاق أي سند. ثانيها، هي أنّ جهة الاختصاص القضائي الوحيدة المخوّلة بالبت بأي خلاف ينشأ بين الدولة والدائنين، هي محاكم نيويورك. أمّا ثالثها، وهي الأهم، فهي أن حملة السندات يملكون خمس سنوات بعد التخلّف عن السداد، لملاحقة الدولة ومطالبتها بفوائد السندات، إلا في حال التوصّل لتفاهم رضائي لإعادة الجدولة.
المسائل الثلاث معًا، تفضي إلى نتيجة واحدة: خلال أقل من سنة من شهر آذار الحالي، سنكون أمام معركة قانونيّة طاحنة مع جميع حملة السندات من دون استثناء، في أروقة محاكم نيويورك، إلا في حال التوصّل إلى تفاهم لإعادة جدولة السندات. ومع تأخّر لبنان في تنفيذ أي من شروط التفاهم مع صندوق النقد، بل مع تعذّر وضع أي خريطة طريق لمعالجة أزمة القطاع المالي، من المستبعد أن نتمكّن من التوصّل إلى تفاهم حول إعادة جدولة سندات اليوروبوند بحلول هذا التاريخ. وهذا ما يدفعنا لتوقّع المعركة القانونيّة المقبلة كمصير شبه حتمي، قبل آذار 2025. المشكلة الأكبر، هي أنّ الحكومة التي تخوض المعركة بالنيابة عن الشعب اللبناني، هي من يقدّم أفضل الخدمات لخصوم الدولة القانونيين في هذه المعركة، أي حملة السندات.
الدولة صاحبة النيّة السيئة
أحرق لبنان أربع سنوات من عمر الأزمة، منذ أن تخلّفت الحكومة عن سداد السندات لأوّل مرّة في آذار 2020. وبدلًا من التفاوض مع حملة السندات خلال هذه الفترة، للتوصّل إلى تفاهم حول كيفيّة إعادة هيكلة الدين، جرى منح حملة السندات أفضل الأوراق القانونيّة التي سيتم استعمالها لإثبات سوء نيّة أصحاب القرار في الدولة اللبنانيّة، وعدم امتلاكهم الحد الأدنى من المصداقيّة. وحسب العديد من المصادر القانونيّة القانونيّة، يمكن تلخيص هذه الأوراق -التي سيستخدمها حملة السندات حكمًا في مرحلة الادعاء- على الشكل التالي:
– وقعت الدولة تفاهمًا مع صندوق النقد، بما يتضمّن بعض الخطوات الموجهة لمسار التعافي المالي. غير أنّ الحكومة اللبنانيّة فشلت في تحقيق الغالبيّة الساحقة من مندرجات هذا التفاهم، ولم تتمكّن حتّى هذه اللحظة من الوصول إلى الاتفاق النهائي. بالنسبة لحملة السندات، كان يفترض أن يكون ذلك الاتفاق هو الضمانة الأساسيّة، التي يمكن الركون إليها للقبول باستحقاقات جديدة وفوائد جديدة للسندات، ناهيك عن اقتطاع جزء من قيمتها.
– لم تلتزم الدولة بمضامين أي خطّة تعافٍ مالي منذ أواخر العام 2019، حتّى بعد أن تم عرض أو إقرار خطط معيّنة داخل مجلس الوزراء، كما جرى بعد إقرار خطّة لازارد عام 2020 أو خطّة حكومة ميقاتي عام 2021. وبغياب أي خطّة تعافٍ، لا يوجد أي أرضيّة واقعيّة للاتفاق على إعادة هيكلة للديون.
– لم تبادر الدولة حتّى تاريخ اليوم إلى أي تفاوض جدّي مع حملة السندات، وهو ما يؤكّد أن الدولة اللبنانيّة لا تملك إرادة أو نيّة العودة إلى أسواق المال الدوليّة، عبر تفاهم رضائي مع حملة السندات.
– خلال الفترة الممتدة منذ آذار 2020، لم تتخذ الدولة أي إجراءات توحي باتجاهها لاستعادة ملاءتها الماليّة، وقدرتها على الامتثال لإلتزاماتها. ويمكن التأكيد على ذلك من خلال ضعف إجراءات التصحيح الضريبي، واستمرار استنزاف الاحتياطات المتوفّرة، فضلًا عن تحلّل جميع الأطر الإداريّة في المرافق العامّة. وبشكل عام، لا يوجد ما يوحي بأن الدولة تتجه لتكون قريبًا طرفًا موثوقًا في أي تفاهم مالي مقبل.
– على مستوى التشريعات المطلوبة من جانب الدولة، لم يتم حتّى اللحظة إقرار القوانين التي تكفل معالجة خسائر القطاع المالي، كما لم يقر المجلس النيابي أي إصلاحات على مستوى إعادة هيكلة مصرف لبنان من الناحية الإداريّة، لمعالجة مكامل الخلل التي أدّت إلى الأزمة الراهنة.
كل ما سبق ذكره، سيمثّل أوراقاً قانونيّة تحسّن من وضعيّة الدائنين الأجانب أمام الدولة اللبنانيّة، في سياق عمليّة التقاضي امام المحاكم الأجنبيّة. وإثبات سوء النيّة، سيمكّن حملة السندات من تحقيق أحد خيارين: إمّا التمكّن من فرض إعادة الهيكلة بشروط مجحفة بحق لبنان، وخصوصًا على مستوى قيمة السندات وفوائدها بعد إعادة هيكلتها، أو ملاحقة بعض الأصول السياديّة في الموجودة في الخارج… وخصوصًا تلك التي يملكها مصرف لبنان!
أصول مصرف لبنان: الهدف الأخير لحملة السندات
ملاحقة الأصول السياديّة اللبنانيّة في الخارج ستمكّن حملة السندات من وضع اليد عليها لاستيفاء دينهم، أو على الأقل الضغط على الدولة للقبول بشروطهم. وحملة السندات يدركون أنّ الدولة اللبنانيّة لا تملك أصولاً حكوميّة تُذكر يمكن وضع اليد عليها، باستثناء تلك التي تملك أصلًا حصانة دبلوماسيّة خاصّة لا يمكن تجاوزها (مثل مباني السفارات). الهدف الأخير لحملة السندات، هو بالتحديد أصول مصرف لبنان، التي تمثّل آخر الأصول السياديّة التي تملك قيمة يمكن تسييلها بسهولة.
في الوقت الراهن، تشمل أصول مصرف لبنان في الخارج نحو ثلث الذهب الذي يملكه مصرف لبنان، والذي توازي قيمته مجتمعًا نحو 18.74 مليار دولار أميركي. كما تشمل احتياطات المصرف المودعة لدى المصارف المُراسلة، والتي توازي قيمتها حاليًا أكثر من 9.5 مليار دولار.
بطبيعة الحال، تملك موجودات المصارف المركزيّة حصانة -غير مطلقة- في اجتهادات محاكم نيويورك، لكن كما أشارت “المدن” في مقالٍ سابق، تبقى هذه الحصانة محدودة وفقًا لقدرة الدولة على إثبات استقلاليّة مصرفها المركزي، وعلى إثبات انسجام موجوداته مع المهام التقليديّة التي تضطلع بها المصارف المركزيّة في العادة.
هنا بالتحديد، سيكون بإمكان حملة سندات اليوروبوند تحدّي هذه الحصانة، وإثبات عدم استقلاليّة المصرف، بالاستناد إلى عدّة نقاط ومنها: عمليّات التزوير التي جرت السنة الماضية في ميزانيّة المصرف المركزي، لتحويل خسائره إلى ديون على الدولة اللبنانيّة، وتحمّل الدولة –بهذا الشكل- مسؤوليّة الأعمال الاحتياليّة التي جرت بالتواطؤ ما بين المصرف المركزي والمصارف التجاريّة. كما سيحاجج حملة السندات بأنّ أعمال التزوير أفضت إلى إضافة ديون عامّة جديدة بمفعول رجعي، وهو ما لم يكن موجودًا عند اكتتابهم بسندات اليوروبوند.
على هذا الأساس، سيكون لبنان -خلال أقل من سنة من الزمن- أمام معركة قانونيّة طاحنة، ستظهر فيها آثار سياسة شراء الوقت التي تبنّاها أصحاب القرار السياسي في البلاد، كما ستظهر فيها آثار الأنشطة الاحتياليّة التي جرت لتحميل الدولة كلفة خسائر القطاع المصرفي. وعند تلك النقطة، سيستبدل المودعون آخر ما تبقى من ملاءة مصرف لبنان، أي الذهب والاحتياطات، بمشاريع تحوّل ودائعهم إلى ديون عامّة على الدولة. هذه كلفة شعارات “مسؤوليّة الدولة” عن سداد الخسائر، التي نجح اللوبي المصرفي في تسويقها داخل مجلسي الوزراء والنوّاب.