توقّع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أن يكون الاقتصاد المحلّي قد حقّق نمو بنسبة صفر في المئة منذ بداية العام، معلناً أن المصرف المركزي “يفترض أنّ الاقتصاد لن ينمو أو ينكمش هذا العام”. وبينما كانت هذه أولى الإشارات الصريحة إلى كون أرقام هذه السنة ستكون الأكثر تواضعاً مقارنةً بجميع سنوات الأزمة الاقتصاديّة السابقة، يبدو أنّ هناك مؤشّرات عدّة تدل على أنّ الاقتصاد اللبناني الراكد سيكون في طريقه هذا العام إلى تسجيل ما هو أسوأ من توقّعات سلامة: الانكماش، بما يعني وجود تقلّص في الناتج المحلّي الحقيقي. وفي ظل تزامن ذلك مع معدّلات تضخّم وافرة، يصح هنا توصيف “الركود التضخّمي”، وهو المصطلح الاقتصادي الذي يدل على حالات التباطؤ الاقتصادي التي يصاحبها معدّلات تضخّم معتبرة.
الانكماش لأوّل مرّة
حسب الأرقام التي يقدّمها البنك الدولي، سجّل لبنان مع انفلاش آثار الأزمة الاقتصاديّة معدّلات شديدة التدنّي على صعيد نمو الناتج المحلّي الحقيقي، إذ بلغت نسبة النمو هذه 0.6 في المئة سنة 2017 قبل أن تبلغ 0.2 في المئة في السنة الماضية. لكنّ الأمور لم تبلغ حد تسجيل حالة انكماش في الناتج المحلّي في سنة معيّنة (أي تسجيل نسبة سلبيّة)، بل – وحسب أرقام البنك الدولي أيضاً- لم يسجّل لبنان أي حالة انكماش منذ عشرين سنة.
أمّا مؤشّرات العام الحالي، فهي تدل بوضوح على وجود تراجع كبير، مقارنةً بأرقام السنة الماضية، التي سجّلت أساساً معدّل نمو شديد التدنّي يلامس الصفر، وهو ما يدل على التوجّه نحو الانكماش الاقتصادي هذه السنة. وقبل مراجعة مؤشّرات الاقتصاد الأخرى، يكفي لتبيان هذه الحقيقة مراجعة المؤشّر الاقتصادي العام لمصرف لبنان، الذي سجّل في الربع الأوّل من هذه السنة –ولأوّل مرة منذ بداية الأزمة- نسبة تغيّر سلبيّة، بلغت ناقص 4.3 في المئة، في ثلاثة أشهر فقط، بعد أن سجّل هذا المؤشّر خلال العام الماضي نسبة نمو متواضعة بلغت 0.6 في المئة.
حركة الشيكات المتداولة تترجم التراجع
حجم الشيكات المتداولة، والذي يعبّر عن الحركة التجاريّة في السوق، بلغ من ناحية القيمة لغاية شهر أيار من هذا العام حوالى الـ23.41 مليار دولار (حسب أرقام مصرف لبنان)، وهو ما يعكس تراجعاً بنسبة 15.47 في المئة، مقارنة بأرقام الفترة نفسها من العام الماضي. أما عدد هذه الشيكات فبلغ لغاية شهر أيار حوالى الـ4.26 مليون شيك، وهو ما يعكس أيضاً تراجعاً بنسبة 13.9 في المئة بالمقارنة مع الفترة ذاتها من السنة الماضية. وعمليّاً، نسب التراجع هذه تترجم تراجعاً موازياً في عمليّات البيع والشراء بين التجّار في الأسواق، وهو ما يعطينا فكرة عن مستوى تراجع الأعمال التجاريّة.
وبمعزل عن التراجع في حجم الشيكات المتداولة، يكمن المؤشّر الأكثر خطورة في نسبة الشيكات المرتجعة منها. فخلال الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام، ارتفعت هذه النسبة إلى حدود 2.6 في المئة، مقارنةً ب2.22 في المئة في الأشهر ذاتها من العام السابق. وهو ما يعكس الظروف القاسية التي يمر بها التجّار في السوق المحليّة.
مؤشّرات مقلقة
علامات الركود الاقتصادي والتراجع مقارنة بأرقام السنة الماضية (السيّئة أساساً)، برزت بشكل واضح على صعد مختلفة. فبورصة بيروت تشهد منذ العام الماضي تراجعاً كبيراً في قيمة أسهمها بمختلف قطاعاتها، وهو ما أدّى اليوم إلى تراجع القيمة الكليّة للأسهم المتداولة لغاية 8.5 مليار دولار، بعد أن بلغت في الفترة المماثلة تماماً في العام الماضي مستوى الـ 11.58 مليار دولار. وهو ما يعني أنّ البورصة خسرت خلال سنة ما يقارب 27 في المئة من قيمة أسهمها كافّة.
أمّا على مستوى قطاع البناء، الذي يشهد منذ سنوات ركوده القاسي، فشهد هذه السنة بدوره تراجعاً إضافياً أقسى من المراحل السابقة كافّة. فحسب أرقام المديريّة العامّة للشؤون العقاريّة تراجع عدد المعاملات العقاريّة منذ بداية العام ولغاية شهر أيار إلى حدود 19,024 معاملة، مقارنةً بـ22,707 معاملة، في الفترة المماثلة تماماً في العام الماضي. أي بنسبة تراجع قدرها 16.22 في المئة بين الفترتين. فيما تراجعت قيمة هذه المعاملات أيضاً إلى حدود 2.44 مليار دولار، بنسبة تراجع تبلغ 24.41 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من السنة الماضية.
وبعيداً عن عمليّات الشراء والبيع، تشكّل معاملات رخص البناء مؤشراً على مستقبل القطاع للفترة المقبلة، إذ تعبّر عن عدد مشاريع البناء الجديدة المتوقّعة خلال الأشهر المقبلة. وخلال الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام، تراجع عدد هذه الرخص إلى مستوى 3,056 رخصة، مقابل 4,410 رخصة تم إنجازها في الأشهر الخمسة الأولى من العام الماضي، وهو ما يشكّل تراجعاً بنسبة 31 في المئة بين الفترتين.
على كل المستويات الأخرى، تتكرّر علامات التراجعات، فخلال الأشهر الخمسة الأولى ومقارنة بالفترة عينها من العام الماضي تراجع عدد السيّارات المسجّلة بنسبة 19.87 في المئة، بينما تراجعت واردات مرفأ بيروت من عمليّات الإستيراد والتصدير بنسبة 13.42 في المئة، فيما تراجع وزن البضائع التي عبرت المرفأ من 3.25 مليون طن إلى 2.88 مليون طن.
ميزان المدفوعات: أم المشاكل
كل تلك المؤشّرات مازالت تترجم انعكاس الأزمة الماليّة على القطاعات الاقتصاديّة المختلفة، والتي يعود أساسها إلى مشكلة عجز ميزان المدفوعات (الذي يختصر صافي التحويلات الماليّة بين لبنان والخارج). عجز هذا المؤشّر الذي بدأ في عام 2011، وتكرّر على مدى السنوات اللاحقة، كان هو علامة التحوّل الأساسيّة، التي بدأت بالضغط على النموذج الاقتصادي اللبناني. فالنموذج هذا لطالما قام – قبل 2011- على فوائض التحويلات والودائع الخارجيّة، لتأمين العملة الصعبة وتمويل الاستيراد والدين العام، كبديل عن الإنتاج والتصدير.
هذه السنة، تابع هذا المؤشّر تسجيل العجز، إنما بأرقام قياسيّة لم يشهدها لبنان في أي حقبة بعد الحرب، بما فيها بداية التسعينات. فحتّى شهر نيسان، بلغ مستوى هذا العجز مستوى 3.3 مليار دولار، مقارنة بعجز بلغ مستوى 773 مليون دولار في الفترة نفسها من العام الماضي. ومن المتوقّع، أن يكون هذا العجز مفتاح أزمة السيولة القائمة في لبنان اليوم، فطالما أنّ هذا المؤشّر مستمر في تسجيل العجوزات المتتالية، من المفترض أن تستمر آثار الأزمة الماليّة بالإنعكاس على مختلف القطاعات الاقتصاديّة، وصولاً إلى درجة الانكماش الاقتصادي الذي يلوح بالأفق اليوم.
الانكماش وحسابات التقشّف والموازنة
في حال تحقق هذا النوع من السيناريوهات، من قبيل الدخول في نفق الإنكماش الاقتصادي، سيعني ذلك حسابات مختلفة على مختلف الصعد. فالعجز المستهدف اليوم في الموازنة، يتم احتسابه على أساس نسبة نمو الناتج المحلّي القائم. وفي حال حدوث انكماش في الناتج المحلّي، سيعني ذلك ارتفاع هذه النسبة، وفقاً لمستوى العجز المحقق نفسه. بمعنى آخر، فالحسابات التي يتم اعتمادها اليوم في إطار الموازنة التقشفيّة ستختلف جذريّاً، بمعزل عن فرضيّات معدّي هذه الموازنة.
ومن ناحية أخرى، فالحسابات التي تم اعتمادها عند الإعداد لمؤتمر سيدر وشروطه، استندت إلى خطّة تخفيض نسبة العجز من الناتج المحلّي وفقاً لتدرّج معيّن. وفي حال انكماش الناتج المحلّي، سيعني ذلك ضرورة حصول تقشّف إضافي وتخفيض إضافي في العجز، لتحقيق النسبة نفسها. وهو ما يعني المزيد من الضغوط على الاقتصاد المحلّي المضغوط أساساً. مع العلم أن التقشّف نفسه سيكون أحد مسبّبات تعميق الركود الاقتصادي. وهو ما قد يشكّل دوّامة من التداعيات غير المطمئنة اقتصاديّاً.
وبعيداً عن كل تلك الحسابات الحكوميّة، يبقى الأثر الأبرز على المستوى المعيشي، من خلال تقلّص عدد فرص العمل القائمة في السوق وارتفاع نسب البطالة، وبالتالي تراجع الدخل الفردي. وسنكون أمام آثار اجتماعيّة مضاعفة في هذه الحالة، خصوصاً أن الانكماش هذا سيكون مصحوباً بقدر من التضخّم في أسعار الأسواق. وفي كل الحالات، يبقى السؤال الأوّل عن الخطط الرسميّة الغائبة تماماً عن هذا الجانب تحديداً من الموضوع.