يحب اللبنانيون في العادة أن يعتقدوا بفرادة بلدهم وتجاربهم. والإصرار التاريخي على النموذج الاقتصادي البائد، رغم كل مشاكله، لطالما اتصل باعتقاد كثيرين بإمكانيّة نجاح ما لم ينجح في أي مكان آخر، لأن لدينا “شيئًا ما” يسمح بذلك.
وفي واقع الأمر، قد يكون اللبنانيون قد سجّلوا بالفعل فرادة اقتصاديّة ما أخيرًا، لكن في شكل انهيار نموذجهم الاقتصادي، وليس في قدرته على الاستمرار رغم عيوبه البنيويّة. فباستثناء النكبات الكبرى التي ترافق الحروب والكوارث الطبيعيّة، والتي عادة ما تمتد آثارها عبر الدول، قلّما يعثر الباحثون على جماعة بشريّة هشّمت في ضربة واحدة متعمّدة: ماليّة دولتها ونظامها المصرفي وعملتها ومعيشة مجتمعها. إذًا، ثمّة فرادة ما في أن يكون الانهيار الاقتصادي متعمّدًا، وبأدوات ماليّة واقتصاديّة، وأن يكون شاملًا ومتعدّد الأبعاد الأشكال بهذه الصورة.
لكنّ الفرادة في شموليّة الانهيار وتعمّد حصوله وإطالة أمده، لا تعني فرادة الظواهر التي نتجت عنه، كما لا تعني فرادة الحلول المطلوبة لمعالجة هذه الظواهر. وهذا أكثر ما يستفز الباحثين: لم نكن بحاجة لاختراع البارود لمعالجة هذه الأزمات. والتقاعس عن اعتماد الحلول المعروفة والبديهيّة، هو ما يجعل استمرار الأزمة تآمرًا مقصودًا، كما أشار -عن حق- البنك الدولي في أكثر من تقرير. وهذا ما يجعل الإطاحة بالحلول: عملًا خبيثًا واحتياليًا وإجراميًا، تمامًا كما كانت السياسات التي أدّت إلى الانهيار.
مصارف الزومبي: الظاهرة عالميّة.. والحلول معروفة
العودة إلى هذا الحديث، تأتي مع نشر صندوق النقد دراسة جديدة بعنوان “محدّدات مصارف الزومبي في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية”. ومصارف الزومبي التي يتحدّث عنها الصندوق، هي تحديدًا ما يطغى على النظام المالي اللبناني منذ أواخر العام 2019.
مصارف الزومبي هي كما تعرّفها ورقة صندوق النقد: مصارف متعسّرة، ومتعسّرة بمعنى فقدانها للملاءة والسيولة، وبمعنى عدم القدرة على الإيفاء بالتزاماتها للمودعين. ومع ذلك، تبقى هذه المصارف في السوق، من دون معالجة أزمتها، بفضل التسامح التنظيمي معها، أو الدعم الذي تقدّمه السلطات العامّة بشكل من الأشكال. على هذا النحو، يصبح وجود هذه المصارف عملًا منافيًا لقواعد السوق الطبيعيّة، بفضل تدخّل رسمي ما. ويصبح وجودها عبئاً على المجتمع.
ومن المفترض أن يهمنا كلبنانيين في تلك الدراسة مسألتين: أولًا، ما نشهده منذ العام 2019 على مستوى القطاع المصرفي هو ظاهرة لها تفسيرها وشرحها العلمي. ولها ما يشبهها في تجارب الشعوب التي سبقتنا إلى أزمات مصرفيّة، أدّت إلى تداعيات مشابهة. وثانيًا، والأهم، هو أنّ لتلك الظاهرة معالجاتها المعروفة والبديهيّة، وخصوصًا من ناحية تقنيّات إعادة هيكلة المصرفيّة. وهذا ما يختلف بشكل جذري عن المعالجات التي تم اعتمادها في لبنان منذ العام 2019. أي مجددًا: لم نكن بحاجة في السابق، ولسنا بحاجة اليوم، إلى الاجتهاد في اختراع البارود لمعالجة هذه الظاهرة.
الخسائر المخفية
وتشرح الورقة أنّ فكرة المصارف الزومبي، ولدت في أواخر الثمانينات، مع بروز أزمة المدخرات والديون الأميركيّة. لكن أزمة الديون الأوروبيّة في بدايات العام 2010 عادت وأيقظت المخاوف من عودة الظاهرة إلى مسرح الأسواق المتقدمة، بعدما ظهرت أزمات مصرفيّة في عدّة دول، لم تتم معالجتها إلا بمساعدة السلطات الرسميّة ودعمها.
وفي كثير من الأحيان، لم تشعر الأسواق في البداية فعلًا بوجود هذه الأزمات، غير أنّ أزمة الديون كشفت قدرًا كبيرًا من “الخسائر المخفيّة والمتراكمة”، ناهيك عن عدم كفاية الرساميل، وقدم قدرتها على استيعاب حجم الأزمة. ومصطلحات مثل “الخسائر المخفيّة” أو “المتراكمة”، وعدم كفاية الرساميل، تذكّر طبعًا بمصطلحات ألفها اللبنانيون على مرّ السنوات الأربعة الماضية (لكن ما اختلف طبعًا، هو طريقة تعامل السلطات مع الأزمة).
مقدّمة الورقة، تميّز بوضوح ما بين أنواع مختلفة من ظواهر المصارف الزومبي. فمنها تلك التي تخفي خسائرها على مرّ السنوات، عبر أساليب محاسبيّة مختلفة، لتنفجر أزمات التعسّر بشكل مفاجئ، وتضطر السلطات لاحقًا إلى التدخّل ومعالجة الفجوات. وهذا ما ينطبق مثلًا على الحالة اللبنانيّة، حيث أخفت المصارف ومصرف لبنان حجم الخسائر التي تراكمت على مرّ السنوات الماضية، قبل أن تنكشف الأزمة على نحوٍ مفاجئ بعد العام 2019 (مع غياب التدخّل الرسمي حتّى الآن طبعًا). وفي المقابل، ثمّة حالات يتم فيها الاعتراف بالخسائر التي تتراكم بشكل واضح في الميزانيّات، من دون ان تتدخّل السلطات الرسميّة لفرض إجراءات تصحيحيّة. وهذا ما يفضي إلى النتيجة نفسها لاحقًا: وجود قطاع مالي مهشّم وممتلئ بالخسائر.
تجارب إعادة الهيكلة
تعدّد الورقة بعض النماذج الذي شهدت ظهور مصارف زومبي، ومنها على سبيل المثال النيبال عام 2003. يومها، ترافقت مصاعب القطاع المصرفي مع تصاعد معدلات الفقر والركود الاقتصادي، بعد أكثر من عقد من الحرب الأهليّة القاسية. وللتعامل مع تلك الأزمة، اضطرّت السلطات إلى الدخول في برنامج تصحيحي لثلاث سنوات مع صندوق النقد، بهدف تقليص معدلات الفقر وتصحيح الثغرات الاقتصاديّة البنيويّة. وكجزء من ذلك البرنامج، دخلت النيبال في مسار خاص لإعادة هيكلة القطاع المصرفي المحلّي، لاستعادة ملاءة وسيولة القطاع على المدى البعيد، ومعالجة خسائره.
وعلى النحو نفسه، لجأت أوكرانيا إلى برنامج مع الصندوق عام 2008، بعدما طالت مصارفها تداعيات أزمة الديون العالميّة في تلك السنة. وتمامًا كحالة النيبال، احتاجت أوكرانيا لصياغة تشريعات خاصّة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي لديها، وللتخلّص من الخسائر التي تراكمت في الميزانيّات بفعل الأزمة الماليّة العالميّة. وعلى النحو نفسه، تضمّن تفاهم باكستان مع صندوق النقد –في السنة نفسها- شروطاً مماثلة، على مستوى إعادة هيكلة المصارف المتعسّرة ومعالجة أزمة السيولة، التي نتجت عن تأثّر البلاد بالأزمة الاقتصاديّة العالميّة.
أمّا آخر التجارب التي تناولتها الورقة، فكانت مولدوفا بين العامين 2015 و2016، التي صاغت –كجزء من اتفاقها مع صندوق النقد الدولي- أطراً تنظيميّة خاصّة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وتصحيح الثغرات التنظيميّة التي سمحت ببروز أزمة القطاع المالي لديها. مع الإشارة إلى أنّ شروط الصندوق تضمّنت يومها فرض إجراءات قسريّة، بحق المصارف الكبرى المخالفة للشروط التظيميّة المصرفيّة المحليّة.
لبنان البعيد عن إعادة الهيكلة
في كل التجارب التي تحدّثت عنها ورقة صندوق النقد، ومنها التجارب الناجحة، لم يتحدّث أحد عن “رفض وضع اليد على القطاع المصرفي“، كما لم يتحجّج أحد بالاقتصاد الحر لرفض معايير إعادة الهيكلة. ولم يشيطن أحد البرامج التي تم الاتفاق عليها لإعادة هيكلة المصارف، بوصفها برامج شيطانيّة تهدف إلى ضرب الثقة بالمصارف (التي كانت متعسّرة أصلاً، كحال مصارف لبنان المتعسّرة).
بل على العكس تمامًا، أدركت الحكومات أن دورها التنظيمي في السوق، والتزامها بضمان حقوق الأفراد في المجتمع، يفرض تدخّلها لمعالجة الأزمات الهيكليّة في القطاع المالي. معالجة الخسائر والتخلّص منها كانت الأولويّة، لا حماية رساميل أصحاب المصارف، ومن استفاد من أرباح المراحل السابقة. أمّا الأهم، فهو أنّ شعارات “مسؤوليّة الدولة” و”قدسيّة الودائع”، التي يُراد منها الهروب من إعادة الهيكلة في لبنان، لم تكن يومًا جزءًا من الخطاب العام المسؤول، في الدول التي تخلّصت من ظاهرة المصارف الزومبي.
إعادة الهيكلة كانت دائمًا الطريق الوحيد للتخلّص من ظاهرة المصارف الزومبي، التي تنهش موارد المجتمع وتحرمه من حقّه بوجود قطاع مالي معافى وسليم، وتحرمه من أبسط الخدمات المصرفيّة البديهيّة. وإعادة الهيكلة تبدأ من عملية التخلّص من الخسائر، ومعالجتها، وتحميلها للفئات التي كانت مسؤولة عن تراكمها، ومنها الأموال غير المشروعة أو تلك المتأتية عن أرباح غير عادلة. وهذا لا يمر حتمًا بشعارات تحميل الدولة (أي الشعب بكامله) خسائر المصارف، كما لا يمر بنظريّة “قدسيّة الودائع” التي تهدف إلى تساوي حقوق الأموال والرساميل غير المشروعة مع الودائع المحقّة. وهذه النظريّات لن تعيد الودائع في جميع الحالات، بل ستلقي عبء الخسارة على المجتمع من دون معالجتها.
التخلّص من ظاهرة المصارف الزومبي في لبنان، يحتاج إلى معالجات علميّة، لا إلى شعارات شعبويّة. كما يحتاج إلى رأي عام يلعب دوره في الدفع باتجاه الحلول، بعد الاطلاع على تعقيدات الأزمة وتداعياتها، وما سبقها من تجارب في دول العالم الأخرى. وهذا يحتاج إلى ثقافة ونضج في ممارسة العمل السياسي والتعامل مع الشأن العام.