تُشير تقديرات العاملين في القطاع السياحي أن لبنان سيستقبل هذا الصيف نحو 1.5 مليون وافد، غالبيتهم من المغتربين، وأن هذا الرقم أكبر من عدد الوافدين المسجّل في الصيف الماضي والذي بلغ 1.2 مليون وافد. وهناك ارتكاز واسع على هذه التقديرات، للإشارة إلى وجود نشاط اقتصادي ناتج من هذه الحركة الكبيرة والأموال النقدية التي يحملها الوافدون للإنفاق المحلّي أو لتقديم العون لأهاليهم الذين بدورهم ينفقون الأموال.
في الواقع، إن النشاط الأساسي وشبه الوحيد الذي يتم تحفيزه بواسطة الوافدين وأموالهم هو النشاط الاستهلاكي. وبما أن هذا النشاط يعتمد بشكل أساسي على استيراد السلع من الخارج، فإن غالبية الأموال التي تأتي إلى لبنان عبر السياح الوافدين سواء كانوا مغتربين أو أجانب، سيخرج القسم الأكبر منها مباشرة عبر قنوات الاستيراد. والنشاط الداخلي المسجّل بفعل هذه الحركة هو بطبيعته قليل جداً. فالمطاعم والفنادق وأماكن التسلية والترفيه تعتمد بشكل أساسي على الكهرباء التي تمثّل حصّة وازنة من كلفة مبيع المنتج النهائي، وهذه الكهرباء نستوردها على شكل مازوت وفيول، كما نستورد المعامل والمولدات التي تصنع بواسطتها، وسنتورد أسلاك الكهرباء التي تتغذّى بها، واللمبات أيضاً… أما صناعة الأكل فإن قسماً كبيراً منها يأتي من الخارج في ظل تلك المفاهيم الغربية التي يغرق فيها المطبخ اللبناني ويتنافس عليها أصحاب المطاعم لاجتذاب المستهلكين. النسبة الأكبر من النشاط المتولّد داخلياً في هذا المجال هو قوّة العمل، أو ما تقوم به اليد العاملة، لكن هذه النسبة ليس لديها حصّة وازنة في الكلفة الإجمالية للمنتج.
رغم ذلك، يتم التهليل لهذا القطاع باعتباره المصدر الأهم لتدفق الدولارات من الخارج. والواقع، أن الناس أغفلوا أن طغيان قطاعات الخدمات على القطاعات الإنتاجية هو أحد الأسباب الجذرية للانهيار الذي سجّل في لبنان اعتباراً من عام 2019 ولا تزال مفاعيله مستمرة لغاية اليوم. لكن مفاعيل هذا الطغيان اليوم باتت أكثر شراسة، إذ إن حصّة الخدمات من الناتج المحلي الإجمالي باتت تبلغ 79% بحسب تقديرات البنك الدولي لعام 2023، أما القيمة المضافة المنتجة بواسطة قطاع الخدمات فهي وفق تقديرات البنك تساوي 94% في عام 2021 والسبب يعود إلى الانخفاض الكبير في الناتج المحلي الإجمالي وانكماش حصص القيم المضافة المتولدة من القطاعات المنتجة مثل الصناعة والزراعة.
رغم غياب كل هذه الخطوط الأساسية اللازمة للنهوض والازدهار، يتم التهليل للقطاعات الخدماتية بشكل أعمى. وهذا التهليل يغفل قصداً أنه في السنة الماضية كانت الدعاية عن صيف حار، وقدوم المغتربين، إلى جانب قرار وزير السياحة بالسماح للمؤسسات السياحية التسعير بالدولار النقدي، سبباً رئيسياً في تضخّم الأسعار. أولاً، تضخّمت أسعار «الاستجمام والتسلية والثقافة»، بحسب أرقام إدارة الإحصاء المركزي بين نيسان 2022 ونيسان 2023، بنسبة 205%، وتضخّمت أسعار «المطاعم والفنادق» بنسبة 378%. خلال 12 شهراً فقط حصل هذا التورّم في الأسعار بهدف «تشليح» الوافدين دولاراتهم التي سندفعها لتمويل استيراد المواد الأساسية لإنتاج الطاقة والغذاء والخدمة أيضاً. ومع هذا التضخّم، ارتفعت أسعار الغذاء والاتصالات والألبسة والأحذية والمشروبات الروحية والعصائر… كل ذلك حصل لأن هناك حفنة من أصحاب الرساميل يستحوذون على الحصّة الأكبر من القيمة المضافة التي يولّدها القطاع السياحي.