آخر التقديرات ومصدرها مرجعيات مصرفية، تفيد أن تحتياطي مصرف لبنان الحالي يتراوح بين 9 و 10 مليارات دولار أميركي، تمثّل عملياً “الوِفر” الباقي من نهب الودائع، أو الذي “زمط”، حتى الآن، من براثن “جريمة العصر”. هذه الكميّة تحديداً هي التي تُخطِّط السلطة السياسية لنهبها تحت مسمى “الإقراض”.
خلال الإجتماعات السابقة والمستمرة بين رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، ونواب حاكم مصرف لبنان الأربعة (وسيم منصوري، بشير يقظان، سليم شاهين وألكسندر مرديان)، لم ينفك ميقاتي يحدّثهم عن الصعوبات والتحديات التي قد تلحق بالدولة في حال استقالتهم، ومن جهة ثانية، يتحدث عن ضرورة تسيير الأعمال في المصرف المركزي، من بينها تمويل الرواتب واستمراريتها وهو ما تؤمّنه “صيرفة”، طالباً منهم إيجاد البديل عن “المنصة” طالما أنهم يريدون إلغاءها وهو جاهز لأي شي. من جملة ما اشترطَ عليه هؤلاء في حال أراد تأمين التمويل من الإحتياطي، أن يُبادر هو في المرحلة الحالية، إلى “قونَنَة” عملية الإستدانة تلك.
جملة أهداف يريدها “النواب” من وراء طرحهم. بداية أن يضعوا حداً لتدخل مصرف لبنان في سوق القطع، أولاً، ووضع حدّ لتولّي المصرف المركزي عمليات إقراض الدولة اللبنانية من الإحتياطي دون مسوّغات قانونية، ثانياً، أما ثالثاً فتحصين أنفسهم مما قد يحدث لاحقاً، لأنه وعلى ذمة أحدهم: “نحن لسنا رياض سلامة”.
وجملة “لسنا رياض سلامة” يمكن توظيفها في أكثر من تفسير ووضعية، كأن هؤلاء، لن يجدوا من يدعمهم في حال اتخذوا أي قرار مشابه، لأنهم ببساطة ليسوا رياض سلامة.
عملياً، يُريد الرئيس ميقاتي أن يلتزم “النواب” بإقراض الدولة مبلغ يقدر بـ200 مليون دولار لمدة لا تتجاوز أربعة أشهر، لزوم تسديد الرواتب واستيراد الضروريات والتدخل في سوق القطع متى دعت الحاجة، بسقف أقصاه مليار دولار أميركي. وكما بات معروفاً، إشترطَ النواب الأربعة الحصول على تشريع من مجلس النواب يُبرّر عمليات الصرف تلك، وهو ما يبحثه ويدرسه حالياً الرئيس ميقاتي مع رئيس مجلس النواب نبيه بري. ويتوقع أن يلتزم الأخير، طالما أن الشرط الموضوع من أجل تجنّب استقالة النواب الأربعة، هو تأمين هذا التشريع.
عملياً، يستند الدعاة إلى هذه التخريجة، إلى المادة 91 من قانون النقد والتسليف التي تجيز لمصرف لبنان إقتراض الحكومة في الظروف الإستثنائية أو في حالات الضرورة القصوى، وإلى رأي صادر عن هيئة التشريع والإستشارات في وزارة العدل عام 2022، يربط تطبيق هذه المادة بضرورة العودة إلى مجلس النواب للحصول منه على إجازة تشريعية تتيح الصرف في الظروف الإستثنائية، ثم لاحقاً رأياً موازياٍ صدر عن مجلس شورى الدولة، يرفض مبدئياً إقراض الدولة من المصرف من دون تشريع.
في مقابل الرأيين، ثمة مجموعة آراء أخرى، يتقدمها رأي يرى أن المصرف عادة (أي مصرف) يخضع لشروط صارمة لها علاقة بتحمّله المسؤولية عن تأمين تمويل لمدين متعثّر أو في حالة توقّف المدين عن الدفع.
وفي الحالة الراهنة، الدولة اللبنانية (بصفة زبون) واقعة في تعثر مالي، وبالتالي، لا يجوز للمصرف المركزي أن يموِّل “مدين متعثِّر” ومتوقّف عن سداد فوائد السندات لحاملها. إلى هذا الرأي ثمة آخر لا يقلّ أهمية.
بحسب مرجع قانوني كبير، فإن مقدمة الدستور ـ الفقرة “و” (النظام الإقتصادي حرّ ويكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة)، والمادة 15 من الدستور (الملكية في حمى القانون فلا يجوز أن ينزع أحد ملكه إلا لأسباب المنفعة العامة في الأحوال المنصوص عليها في القانون وبعد تعويضه منه تعويضاً عادلاً)، واضحين في اعتبار أن الإحتياطي الذي هو في الأصل عبارة عن أموال الودائع، هو كناية عن ملكية فردية.
ومتى كانت الأموال المقترح إقراضها هي في الأصل ودائع في المصارف تعود ملكيتها لمواطنين، إذاً لا يجوز لمجلس النواب التشريع في أمر يخالف مواد الدستور، وقد يعرِّض أي اقتراح مشابه للإبطال. في هذه الأثناء علم “ليبانون ديبايت” أن نقاشاً يدور بين مجموعة نواب، عنوانه التوجّه إلى المجلس الدستوري بعريضة طعن في أي تشريع مشابِه قد يتّخذ في مجلس النواب.
من خلف الكواليس، تجري محاولات إقناع لنواب الحاكم الأربعة وعلى رأسهم النائب الأول وسيم منصوري قبول تولّي منصب حاكم مصرف لبنان، سنداً لمواد قانون النقد والتسليف ريثما يتم تعيين بديل.
لهذا الغرض، شهد السوق عمليات تهدئة طاولت سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة. وفهم أن المحاولات الجارية مردّها إلى إرساء جو إيجابي في السوق يشكل إجازة للنواب الأربعة للقبول بالمهمة، وسط التزام شفهي من رئيس الحكومة بالمحافظة على استقرار سعر الصرف طوال المرحلة التي سيشغلونها.
وعلم “ليبانون ديبايت” من مصرفيين كبار، أن جملة أمور ساهمت خلال الساعات الماضية بتخفيض سعر صرف الدولار مقابل الليرة، إحداها إقناع إحدى الشركات الكبرى تسديد مستحقاتها للدولة اللبنانية بالدولار الأميركي، ما خفّف طلب الدولة على العملة الصعبة من السوق وساهم في تأمين تمويل الرواتب لهذا الشهر، بالإضافة إلى استراتيجية يبدو أن المصرف المركزي يتبعها بعدما أنجزَ عملياً “تجفيف” العملة الوطنية من السوق.
ويمكن إختصار الإستراتيجية، بمحاولة خفض سعر الصرف إلى أقصى درجة ممكنة ولعلّه يريد إيصاله إلى مستوى سعر منصة صيرفة المحدّدة بـ85,500 ل.ل، تجنباً لقفزات سريعة يتخوّف من حصولها نهار الإثنين المقبل مع إحالة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى التقاعد وتوقفه كلياً عن التدخل في السوق.
ويعتقد أن تلك الخضّة وما سيتبعها من قفزات متوقعة الحدوث، ستكون مضبوطة إلى حدٍ ما، إذ ما تقرّر خفض سعر الصرف وجرت المحافظة عليه. بمعنى أوضح، إن ارتفاع الدولار 10 آلاف ليرة مثلاً متأثراً بالتغيّرات من حدود 85 ألفاً، لهو أمر يختلف عن ارتفاعه من مستوى سعر 95 ألفاً، وهكذا.