رفع مصرف لبنان بعد ظهر أمس الأول، سعر منصة “صيرفة” 4 آلاف ليرة، واضعاً إيّاه بمصاف سعر “السوق الموازي” 89,500 ليرة لبنانية.
بخلاف ما ظنّ البعض، فإنّ المصرف المركزي لم يصدر بياناً حول رفع السعر، وإنّما اعتمد الأسلوب نفسه الذي كان يُعتمد أيّام الحاكم السابق رياض سلامة لإصدار حجم التداول وسعر “صيرفة” اليوميّ.
يبدو أنّ تلك الخطوة قد تمّت بعد تشاور حاكم المصرف المركزي بالإنابة وسيم منصوري مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، إذ تأتي بعد الحديث عن زيادة رواتب موظّفي القطاع الخاصّ ومنحهم “بدل إنتاجية”، وكذلك تزامناً مع قرب موعد إقرار الموازنة العامّة لسنة 2024، التي يُفترض أن تنتهي مهلة إقرارها في نهاية كانون الثاني المقبل، وربّما تدفع بالبلاد قدماً نحو توحيد سعر الصرف عند الرقم نفسه 89 ألفاً.
لكن في خضم هذا المعطى، قد يسأل سائل: ما الفائدة من تلك الخطوة؟ وهل هي ضرورية بالفعل؟ وإلى ماذا استند مصرف لبنان من أجل القيام بها؟ وعلى ماذا ستؤثّر تحديداً؟
الرواتب أقلّ بـ4 ملايين دولار
في عملية حسابية بسيطة، يمكن الاستدلال على أنّ تلك الآلاف الأربعة زيادة على سعر “صيرفة”، سيدفعها موظّفو القطاع العامّ من رواتبهم، التي تُصرف لهم مطلع كلّ شهر بالدولار بعد احتسابها على سعر المنصّة. بمعنى آخر فإنّ كلّ 100 دولار كان يحصل عليها الموظّف بموجب سعر صرف 85,500 ليرة سابقاً، سيقبضها 95 دولاراً بموجب السعر الجديد 89,500 ليرة.
بما أنّ حجم رواتب القطاع العامّ هو قرابة 7 تريليونات ليرة لبنانية، وتتوزّع على قرابة 400 ألف موظّف، فإنّ معدّل الراتب الواحد وفق تلك الحسبة، هو قرابة 200 دولار… أي أنّ كلّ موظف سيحصل على راتبه بأقلّ من السابق بنحو 10 دولارات. وهذا بدوره يعني أيضاً أنّ تلك الآلاف الأربعة ستُمكّن مصرف لبنان من توفير نحو 4 ملايين دولار كلّ شهر (بحسب حجم الرواتب الحالية)، أي ما يقارب 50 مليون دولار سنوياً.
فواتير ورسوم أكثر؟
أضف إلى ذلك أنّ السعر الجديد (89,500 ليرة) سيؤثّر “نظرياً” على جميع الرسوم الحكومية المحتسبة على سعر “المنصّة”، وذلك مثل فواتير الاتصالات التي سترتفع عند احتسابها بالليرة، وكذلك فاتورة الكهرباء، التي “تقرّشها” مؤسسة كهرباء لبنان على سعر المنصة وتضيف إليها 20%. وقد خفّضتها الشركة أخيراً وحذفت الـ20% فباتت على سعر “السوق الموازي” تقريباً.
نقول “نظرياً” لأنّ أغلب تلك الفواتير باتت تُدفع من المواطنين بالدولار الأميركي وليس بالليرة، نتيجة القرار الذي اتّخذته وزارة الاقتصاد في شهر شباط الفائت وقضى بـ”دولرة” الأسعار، التي ارتدّت إيجاباً على استقرار سعر الصرف، لكنّها في المقابل عزّزت من مكانة الدولار على حساب الليرة اللبنانية، التي تحوّلت من “عملة لبنان” إلى “عملة الدولة” فقط.
بعد “دولرة” الأسعار أضحى استخدام الليرة محصوراً بالمعاملات الرسمية الخاصة بالدولة، بينما كلّ ما هو على علاقة بالقطاع الخاصّ (حتى لو كان الخضرجي أو الفرّان) يُدفع بالدولار بنسبة تقترب أحياناً من 100%.
كلّما اقتربت أسعار السلع والخدمات إلى “الدولرة” الشاملة، أمسى سعر صرف الدولار أمراً هامشياً لدى المواطنين، باعتبار أنّهم يقبضون رواتبهم بالدولار ويدفعون ثمن سلعهم وخدماتهم بالدولار أيضاً، وذلك بمعزل إن كان سعر الصرف 1,000 أو 100 ألف أو حتى مليون ليرة. لكنّ الجهات، التي ستتأثّر دوماً بأيّ خلل بسعر الصرف، هي موظّفو القطاع العام، والموظّفون الذين ما زالوا إلى اليوم يتقاضون رواتبهم بالليرة.
من حسنات رفع “صيرفة” أيضاً أنّه سيدفع بنا خطوة إضافية نحو توحيد سعر الصرف، وذلك نتيجة استغنائها عن سعر 85,500 ليرة من أجل سعر آخر يتطابق مع سعر “السوق الموازي” 89,500 ليرة.
مع إقرار الموازنة العامّة للسنة المقبلة 2024، يُفترض أن نتخلّص من سعر صرف إضافي هو السعر الرسمي 15 ألفاً، الذي سيتحوّل بدوره إلى سعر السوق 89,500 ليرة…. وبذلك تكون كلّ الأسعار قد توحّدت عند هذا الرقم، الذي يُقال بحسب المعلومات المتواترة إنّه سيكون الرقم الذي ستنطلق منه منصّة “بلومبرغ” العتيدة التي يقال إنّ العمل بها سينطلق خلال شهر شباط المقبل.
“بلومبرغ”… نهاية النفق؟
بما أنّ الطلب على الدولار اليوم شبه معدوم (نتيجة “الدولرة”)، وعلى الليرة مُنتعش (بشكل مصطنع طبعاً) نتيجة شحّ الليرات والحاجة إلى دفع الالتزامات الخاصة بالدولة (ضرائب ورسوم)، فإنّ الرهان سيكون معقوداً على قدرة تلك المنصة على خفض سعر الصرف إلى ما دون 89 ألفاً، خصوصاً إذا ترافق إطلاقها مطلع السنة الجديدة مع إقرار قانونَي الموازنة والـ”كابيتال كونترول” (البرلمان منح الحكومة مهلة شهرين من اليوم من أجل تقديم مشروع جديد معدّل). عندها سيصبح سعر الصرف محرّراً وخاضعاً، إلى حدّ بعيد، لعملية “العرض والطلب”، خصوصاً إذا ما ترافق ذلك مع الاستمرار في ضبط المضاربات وإلزام الصرّافين الشرعيين بأرقام المنصة من خلال الرقابة الفعّالة والصارمة، وكذلك مع عودة الحركة إلى القطاع المصرفي.
بذلك نكون قد دخلنا فعلاً في صميم الإصلاحات التي يُنادي بها صندوق النقد والمجتمع الدولي… ولو بشكل متأخّر وخجول وفي بعض المرّات متعرّج وملتوٍ.