علمت “الأخبار” أن هندسة مالية جديدة أجراها مصرف لبنان في الشهر الأخير من السنة الماضية، لمصلحة “سيدروس إنفست بنك”، ودرّت ربحاً فورياً لأصحاب هذا البنك والمشتركين معهم، بقيمة 30 مليون دولار، من ضمنها 12.5 مليون دولار وزّعت على “عملاء للبنك”، من دون أن تتضح هوية هؤلاء والدور الذي أدّوه في هذه العملية للحصول على حصّة من أرباحها، وهو ما يطرح تساؤلات إضافية عن حقيقة «الهندسات المالية» وأهدافها، ويزيد من الأدلة على شبهة «الإثراء غير المشروع» التي تنطوي عليه هذه «الهندسات»
يصرّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، على تبرير هندساته المالية الجارية مع المصارف التجارية، بوصفها أداة ضرورية في مواجهة الضغوط التي يتعرض لها سعر صرف الليرة. وهو أعلن في مناسبات كثيرة أن هذه الهندسات أسهمت في المحافظة على الاستقرار النقدي ووفرت المزيد من الحماية للودائع في المصارف، على الرغم من كلفتها الباهظة.
إلا أن الوقائع المتعلقة بالهندسات المالية الجارية مع «سيدروس إنفست بنك» تصرّ على دحض هذه التبريرات، وتقدّم صورة مريبة عنها. فقد اطلعت «الأخبار» على وثيقة جديدة تفيد بأن مصرف لبنان منح في شهر كانون الأول الماضي البنك المذكور تسليفات بالليرة اللبنانية بفائدة متدنية تبلغ 2%، وفي اللحظة نفسها، وظّف هذا البنك هذه التسليفات لدى مصرف لبنان على فترة 10 سنوات بفائدة تبلغ 10.5%. وهكذا كسب البنك ربحاً سنوياً من فارق الفائدة (8.5%) من دون أن يقوم بأي عمل أو يوظّف أي رأس مال أو يتحمّل أي مخاطرة.
بلغت أرباح هذه العملية نحو 30 مليون دولار، وهي تمثّل جزءاً من الربح المتوقع خلال السنوات العشر التالية. واللافت أن هذه الأرباح توزّعت بقيمة 17.5 مليون دولار حققها البنك وسجلها كأرباح فورية في عام 2018، وسُدِّد 12.5 مليون دولار إلى «عملاء البنك الذين أسهموا في عملية الهندسة المذكورة»، وفق ما ورد في الوثيقة.
المعروف أن مصرف لبنان ينفّذ الكثير من هذه العمليات مع بنوك مختلفة، والأرباح الناتجة منها تُستخدَم في إطفاء خسائر مقابلة في ميزانيات هذه البنوك، أو تُسجَّل خارج الميزانية، أو كأرباح مؤجّلة. وفي مطلق الأحوال، تنصّ تعاميم مصرف لبنان نفسه على عدم جواز تسجيل أي أرباح فورية قابلة للتوزيع قد تنتج من هذه العمليات. إلا أن «سيدروس إنفست بنك» أعلن أرباحاً حققها في عام 2018 عن مجمل أعماله بلغت قيمتها 43.2 مليون دولار، منها 27.8 مليون دولار، أو ما نسبته 64%، نتجت من العملية الأخيرة المذكورة (17.5 مليون دولار)، بالإضافة إلى عملية جرت في الشهر الأول من العام الماضي، سبق أن كشفتها «الأخبار» («حقيقة الهندسة المالية: من يحاسب حاكم مصرف لبنان؟» الاثنين 3 كانون الأول 2018)، ودرّت ربحاً فورياً أيضاً بقيمة 10.3 ملايين دولار.
الجدير بالإشارة أن «سيدروس» كان قد أعلن تحقيق أرباح مماثلة لعام 2017، بلغت 42.3 مليون دولار، من ضمنها نحو 28.1 مليون دولار نتجت من 5 عمليات أجراها معه مصرف لبنان بطريقة مثيرة جداً، إذ باع مصرف لبنان سندات خزينة للبنك المذكور، وأعاد شراءها منه في اللحظة نفسها بسعر أعلى، ومنحه ربحاً فورياً مجانياً بهذه القيمة. وقد عمد البنك في العام نفسه (2017) إلى توزيع أنصبة أرباح على المساهمين بقيمة 21 مليون دولار، ما يعني بوضوح، ومن دون أي التباس أن هدف هذه العمليات كان نقل أرباح غير مشروعة من المال العام إلى مساهمي البنك ومَن قد يكون مستفيداً من خلفهم.
تعود قصة هذه العمليات بين مصرف لبنان و«سيدروس» إلى بداية عام 2017، عندما انطلقت حملة واسعة للضغط من أجل التجديد لرياض سلامة لولاية خامسة مُتتالية (عُيِّن للمرّة الأولى في عام 1993)، وذلك قبل أشهر عدّة من نهاية ولايته الرابعة. وجاءت هذه الحملة بعد ترويج معلومات عن نيّة رئيس الجمهورية طرح بديل لسلامة. وفي ذروة المساومات لفرض التجديد، تقدّم «سيدروس إنفست بنك» بتاريخ 13 شباط 2017 بكتاب خطّي من سلامة يطلب منه تخصيصه بـ«هندسة مالية مناسبة» لدعم استراتيجيته التوسّعية الرامية إلى زيادة ودائعه («الأخبار» الثلاثاء 4 نيسان 2017). ونتيجة الضجّة التي أثارها هذا الطلب، أحال سلامة الكتاب على مديرية الشؤون القانونية في مصرف لبنان، التي ردّت في 3 آذار 2017، معتبرة أن «الطلب غير قانوني»، إذ «إن المهمات المنوطة بمصرف لبنان، بموجب القوانين النافذة، هي تأمين السيولة للمصارف، عند الحاجة، وفقاً لشروط خاصّة (ضمانات…)، وليس تعدّي ذلك إلى تعزيز الأموال الخاصّة للمصارف وتأمين ملاءة هذه الأخيرة» («الأخبار» – الثلاثاء 23 أيار 2017).
عام 2017 وزّع «سيدروس» أنصبة أرباح على المساهمين بقيمة 21 مليون دولار
إلا أن سلامة لم يلتزم مطالعة مديرية الشؤون القانونية، وبدأ اعتباراً من 23 آذار 2017 بإجراء عمليّات متتالية مع البنك، وُثِّقَت 7 منها حتى الآن، آخرها في كانون الأول الماضي، وأدّت حتى الآن إلى منحه أرباحاً مجّانية فوريّة من المال العامّ، من دون أي مقابل، تجاوزت قيمتها المرصودة 68 مليون دولار، من ضمنها 12.5 مليون دولار وُزِّعَت على «عملاء البنك» في العملية الأخيرة، فيما سُجِّلَت 55.5 مليون دولار أرباحاً محققة للبنك في العامين 2017 و2018.
الجدير بالإشارة أن العمليات الأولى والثانية والثالثة جرت بين آذار وأيار من عام 2017، أي قبل أيام من التجديد لسلامة في جلسة مجلس الوزراء المنعقدة في 24 أيار 2017. وجرت العمليّتان الرابعة والخامسة بعد التجديد مباشرة في حزيران وتموز من العام نفسه. فيما جرت العمليتان الأخيرتان في الشهر الأول والشهر الاخير من عام 2018.
مالكو سيدروس
تتوزّع ملكية «بنك سيدروس» على 2699800 سهم مملوكة من مجموعة واسعة من المساهمين، أكبرهم «سيدروس إنفست بنك» الذي يحمل 84.9%، فيما يملك رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس 14.9%، ويحمل رئيس مجلس الإدارة فادي العسلي 200 سهم، ويراونت كوسى 480 سهماً، وإيلي بيطار 960 سهماً، وجهاد زمبركجي 150 سهماً، وجوزيف جحا 30 سهماً، و(الوزير السابق) رائد خوري 200 سهم، ومروان مرشد بعقليني 200 سهم، وغسان العياش، النائب السابق لحاكم مصرف لبنان، 200 سهم، وميشال نصري شويري 200 سهم، أنطوان جان جاك جوجاسيان 200 سهم، والمرحوم جورج زغبي 100 سهم، وجورج العتيق 3 أسهم.
أمّا أسهم «سيدروس إنفست بنك»، فهي مملوكة من رجل الأعمال السعودي إبراهيم بن عبد العزيز الجماز بنسبة 10%، ورجل الأعمال سعيد فايز خلف 12%، إضافة إلى مجموعة من المساهمين الذين تقل حصصهم عن 10%، من ضمنهم الوزير السابق خوري نفسه (3.5%)، وعسلي (3.5%).
تراجع أرباح “بنك ميد”!
قالت مصادر مطلعة إن عملية زيادة رأس مال “بنك ميد” بقيمة 110 ملايين دولار باتت بحكم المنتهية، إلا أن تنفيذها تأجّل حتى الشهر المقبل، بسبب إجراءات إدارية تتعلق بانعقاد الجمعية العمومية، حيث سيُناقَش تقرير مجلس الإدارة وتقرير مدققي الحسابات عن التطورات المالية في البنك في السنة الماضية، بعدما تبيّن أن أرباحه تراجعت دراماتيكياً من 105 ملايين دولار إلى 31 مليوناً. وأوضحت المصادر أنه اتُّفق نهائياً على أن تكون زيادة رأس المال محصورة بالشقيقين تيدي وريمون رحمة، اللذين سيضخان في هذه العملية نحو 110 مليارات دولار.