تدهور قيمة عملات الأسواق النامية يطيل أمد ضغوط التضخم

سرد خبراء البنك الدولي في تقرير حديث صادم كيف أن انكماش قيمة العملات في معظم الاقتصادات النامية، سيؤدي إلى ارتفاع أسعار الغذاء والوقود على نحو قد يعمّق أزمات الغذاء والطاقة التي تشهدها الكثير من البلدان.

وتعرضت عملات مجموعة من الدول العربية في مقدمتها مصر ولبنان وسوريا واليمن إلى اهتزازات عنيفة عمقت متاعب الناس منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا قبل ثمانية أشهر.

كما تراجعت قيمة عملات كل من تركيا وغانا وباكستان وتشيلي إلى مستويات قياسية منخفضة، مما ضاعف ارتفاع معدلات التضخم والفقر والاضطرابات التي كانت متأججة بالفعل بعد عامين من المصاعب الاقتصادية الناتجة عن تفشي الوباء.

وحتى الآن خسرت 36 عملة حول العالم ما لا يقل عن عُشر قيمتها هذا العام، بينما انخفضت عشر منها، بما فيها الروبية السريلانكية والبيزو الأرجنتيني بأكثر من 20 في المئة، وفق وكالة بلومبرغ.

ويشير تقرير البنك الذي نشره على منصته الإلكترونية بعنوان “آفاق أسواق السلع الأولية” إلى أن أسعار معظم السلع الأولية محسوبة بقيمة الدولار قد تراجعت عن مستويات ذروتها بفعل المخاوف من ركود عالمي وشيك.

وانخفض سعر خام برنت مُقوَما بالدولار بنحو 6 في المئة، ولكن بسبب انخفاض قيمة العملات الأخرى، شهدت 60 في المئة من الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية المستوردة للنفط ارتفاع أسعار النفط بالعملة المحلية في خلال هذه الفترة.

وكذلك شهدت نحو 90 في المئة من هذه الاقتصادات زيادة أكبر في أسعار القمح بالعملات المحلية بالمقارنة بزيادة الأسعار بالدولار.

ويؤدي ارتفاع أسعار سلع الطاقة التي تعد من مستلزمات الإنتاج الزراعي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية.

وخلال الأشهر التسعة الأولى من هذا العام بلغ معدل تضخم أسعار المواد الغذائية في منطقة جنوب آسيا في المتوسط أكثر من 20 في المئة.

أمَّا معدل تضخم أسعار الأغذية في المناطق الأخرى ومنها أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي، والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأفريقيا جنوب الصحراء، وشرق أوروبا وآسيا الوسطى فقد تراوح في المتوسط بين 12 و15 في المئة.

وكانت منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ المنطقة الوحيدة التي انخفض فيها معدل تضخم أسعار المواد الغذائية، فيما يُعزَى جزئيا إلى الأسعار المستقرة بوجه عام للأرز، وهو الغذاء الرئيسي في المنطقة.

وقال بابلو سافيدرا نائب رئيس البنك الدولي لشؤون النمو المنصف والتمويل والمؤسسات “رغم أن أسعار الكثير من السلع الأولية قد تراجعت عن مستويات ذروتها، فإنها لا تزال مرتفعة بالمقارنة مع المتوسط المسجل في السنوات الخمس الماضية”.

وأوضح أنه إذا حدثت قفزة أخرى للأسعار العالمية للمواد الغذائية، فإنها قد تطيل أمد تحديات انعدام الأمن الغذائي في مختلف البلدان النامية.

وأكد أنه في ضوء ذلك من الضروري اتخاذ حزمة من السياسات لتعزيز إمدادات المعروض وتسهيل التوزيع ودعم المداخيل الحقيقية.

وعلاوة على ذلك، فقد شهدت أسعار الطاقة منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا تقلبات كبيرة، لكن من المتوقع الآن أن تتراجع.

وبعد ارتفاع أسعار الطاقة بنحو 60 في المئة هذا العام، يرجح معدو التقرير أن تنخفض بنسبة 11 في المئة خلال العام المقبل.

ولكن على الرغم من هذا التراجع، فإن أسعار الطاقة العام القادم ستكون أعلى بنسبة 75 في المئة عن متوسطها في السنوات الخمس الماضية.

وتشير تقديرات إلى أن سعر خام برنت سيبلغ في المتوسط 92 دولارا للبرميل في 2023، وهو أعلى كثيرا من المتوسط البالغ 60 دولاراً للبرميل في السنوات الخمس. ومن المنتظر أن تتراجع أسعار الغاز والفحم من مستوياتها القياسية المسجلة هذا العام.

ولكن بحلول 2024، يتوقع أن تبلغ أسعار الفحم الأسترالي والغاز الطبيعي الأميركي ضعفي متوسط السنوات الخمس الماضية، أما أسعار الغاز الطبيعي الأوروبية فقد تزداد بمقدار أربعة أضعاف تقريبا.

وتشير التنبؤات إلى إن إنتاج الفحم سيشهد زيادة كبيرة مع قيام بعض كبار المُصدِّرين بتعزيز الإنتاج، ما يعرض للخطر تحقيق الأهداف المتصلة بمكافحة تغير المناخ.

وقال أيهان كوسي مدير مجموعة آفاق التنمية التابعة للبنك الدولي التي أصدرت التقرير “يؤدي تضافر عوامل ارتفاع أسعار السلع الأولية والتراجع المستمر لقيمة العملات إلى زيادة معدلات التضخم في الكثير من البلدان”.

وأكد أنه لا يتوافر لدى واضعي السياسات في الاقتصادات الصاعدة والاقتصادات النامية سوى مجال محدود لإدارة دورة التضخم العالمية الأشد وضوحاً منذ عقود.

ولذا يرى كوسي أنه يتعين عليهم التروي وتوخي الحذر في تحديد سياساتهم النقدية والمالية، والإفصاح بوضوح عن خططهم، والتأهب لمواجهة فترة قد تشهد المزيد من التقلبات في أسواق المال والسلع الأولية العالمية.

ولكن ما يبعث على التفاؤل هو أن ثمة مؤشرات تدل على أن أسعار المحاصيل الزراعية ستتراجع بواقع خمسة في المئة العام المقبل.

وتم بناء هذه التوقعات استنادا إلى تراجع أسعار القمح في الربع الثالث لعام 2022 بنحو 20 في المئة، لكنها لا تزال أعلى بنسبة 24 في المئة عما كانت عليه قبل عام.

ويُعزى التراجع المتوقع إلى تحسّن محصول القمح العالمي على نحو أفضل من المتوقع، واستقرار إمدادات المعروض في سوق الأرز، واستئناف صادرات الحبوب من أوكرانيا.

ومع ذلك يعتقد جون بافيز، وهو خبير اقتصادي أول بمجموعة آفاق التنمية بالبنك الدولي أن التنبؤات بانخفاض أسعار السلع الزراعية “تتعرض لطائفة من المخاطر”.

ويرى بافيز أن تعطُّل الصادرات من أوكرانيا أو روسيا قد يؤدي مرة أخرى إلى انقطاع إمدادات الحبوب العالمية، وأن أسعار الطاقة إذا واصلت الارتفاع فإنها قد تخلق ضغوطا صعودية على أسعار الحبوب وزيوت الطعام.

كما قد تؤدي الأنماط المناخية غير المواتية إلى تقلص غلات المحاصيل الزراعية ومن المحتمل أن يكون 2023 ثالث عام على التوالي يشهد ظاهرة النينيا، الأمر الذي قد يخفض غلات محاصيل رئيسية في أميركا الجنوبية والدول الواقعة في الجزء الجنوبي من قارة أفريقيا.

والاقتصادات الناشئة ليست الوحيدة التي تضررت من الدولار القوي، ويمكن معرفة ذلك من الأوروبيين واليابانيين، فقد انخفض اليورو إلى مستوى التعادل مع الدولار للمرة الأولى منذ 20 عاما الشهر الماضي، ينما انخفض الين إلى أدنى مستوياته منذ 1998.

ومن المتوقع أن تنخفض أسعار المعادن بنسبة 15 في المئة في 2023، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى تراجع معدلات النمو العالمي والمخاوف بشأن تباطؤ اقتصادي في الصين.

وتشوب مخاطر كثيرة آفاق أسعار السلع الأولية. وتواجه أسواق الطاقة احتمال اشتداد المخاوف بشأن إمدادات المعروض، إذ أن المخاوف حول مدى توافر إمدادات الطاقة خلال فصل الشتاء القادم ستزداد في أوروبا.

وقد يؤدي ارتفاع أسعار منتجات الطاقة عن المستوى المتوقع إلى ارتفاع أسعار السلع الأخرى بخلاف منتجات الطاقة، لاسيما المواد الغذائية، مما يطيل أمد التحديات المرتبطة بانعدام الأمن الغذائي.

وإذا اشتد تباطؤ معدلات النمو العالمية، فإنه قد ينطوي أيضا على مخاطر كبيرة لاسيما على أسعار النفط الخام والمعادن.

وبحث قسم خاص في تقرير البنك الدولي مُحركات أسعار الألومنيوم والنحاس، ويستكشف انعكاسات ذلك على اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية التي تُصدر السلعتين.

ومن المحتمل أن يستمر تقلب الأسعار مع تكشُّف خطوات التحول في مجال الطاقة، وتغيُر الطلب من أنواع الوقود الأحفوري إلى مصادر الطاقة المتجددة، وهو ما يعود بالنفع على بعض منتجي المعادن.

ويقول معدو التقرير إن مُصدري المعادن قد يُحقِّقون أكبر استفادة من الفرص المتأتية للنمو في الأمد المتوسط، وفي الوقت نفسه يمكنهم الحد من تداعيات تقلب الأسعار من خلال اعتماد أُطُر جيدة التصميم للسياسات المالية والنقدية.

مصدرالعرب اللندنية
المادة السابقةموانئ أبوظبي تستثمر في تقنية النقل البحري ذاتي القيادة
المقالة القادمةآمال تمويل مسح البصمة الكربونية تتلاشى في مناخ الحرب