سلوك سلامة المريب محاسبياً

في عام 2003، فتح حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بالاستناد إلى طلب من وزير المال آنذاك فؤاد السنيورة، حساباً إضافياً للخزينة في مصرف لبنان يتفرّع منه حسابان: الأول توضع فيه الدولارات المحوّلة من الدول المانحة، والثاني توضع فيه الأموال التي تجمعها الحكومة من إصدارات سندات الخزينة بالليرة اللبنانية. يومها كان هدف السنيورة أن يمنع سلامة من إدخال هذه الأموال في احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، لكنّ سلامة كان أكثر احتيالاً إذ استغلّ وجود هذا الحساب ليسجّل فيه العملات الأجنبية التي يدفعها بأوامر من الخزينة عن مؤسّسة كهرباء لبنان، باعتبارها قروضاً على الدولة بدلاً من أن تُسجّل كعمليات قطع أو تحويل للعملة.

المنهج المحاسبي في التعامل مع المال العام لم يكن حكراً على فؤاد السنيورة كما هو شائع. بل كان إحدى الخصال التي تعلّمها رياض سلامة في حروبه مع السنيورة. وهذا المنهج كان يقضي بأن يتمّ استغلال الأرقام وطرق معالجتها وتقييدها في السجلّات من أجل تلميع صورة الحكومة أو وزارة المال أو مصرف لبنان. وبنتيجة هذا المنهج، جرت الكثير من عمليات التجميل على أرقام الدين العام، والاحتياطات بالعملات الأجنبية والنموّ وأسعار الفائدة وسواها…. باختصار تحوّل الاقتصاد على يد الاثنين إلى مجرّد أرقام ومؤشرات وعمليات لا وجود للمجتمع فيها. لكنّ مصرف لبنان تحديداً، استعمل هذا المنهج في محطات كثيرة من أبرزها تلك الفترة التي تغنّى فيها بأنه يدعم الاقتصاد عبر دعم قروض القطاعات الإنتاجية والسكنية والبيئية وغيرها، لكنه بالفعل كان يدعم طبقة الميسورين الأثرياء، فضلاً عن أن الدعم الاجتماعي والتحفيز الاقتصادي لا يقعان ضمن اختصاصه أصلاً، بل إن استعمالهما بهذه الطريقة الاستنسابية كان يصبّ في خدمة المسار نحو الانهيار لأنه يحفّز استهلاكاً مستورداً بغالبيته.

ومن أبرز العمليات التي أجراها سلامة في إطار المنهج المحاسبي هي تلك المتصلة بتحويل الخسائر إلى أصول. فاستغلّ طلب السنيورة فتح حساب للخزينة رقمه 100 (عُرف لاحقاً باسم حساب الحصيلة)، لنفخ أصوله المتهالكة. فما الذي يُقيّد في هذا الحساب؟ وعبره كيف نفخ المصرف المركزي أصوله؟

مصرف لبنان بالنسبة إلى الدولة، هو مصرفها الوحيد. هو الذي ينفذ كل العمليات التي تحتاج إليها والتي يمكن اختصارها بمسألتين: أن يقوم مقام الصرّاف تجاه الدولة اللبنانية، وأن ينفذ عمليات التحويل والدفع من حسابها إلى حسابات الغير. هاتان الوظيفتان مبنيتان على أن الدولة ليست لديها مداخيل تُذكر بالدولار أو بالعملات الأجنبية الأخرى، وأنها لا تستعمل في علاقاتها مع الغير سوى العملة اللبنانية. وهي تخصّص في الموازنة مبالغ بالليرة لتسديد عقود بالعملة الأجنبية بحسب سعر الصرف السائد. وحين يأتي موعد الاستحقاق تشتري الخزينة، كأيّ زبون آخر، الدولارات أو اليورو من مصرف لبنان وفق سعر الصرف السائد. وظيفته أن يوفّر لها الدولارات، وإلا إذا كانت ستجمع الدولارات من السوق فلم تعد لديها أي حاجة إليه. وبالإضافة إلى توفير الدولارات للدولة، فإن مصرف لبنان ينجز العملية تقنياً، أي يسدّد الدفعة المستحقّة عليها.

في هذا الإطار، فإن أي عملية مثل تسديد ثمن الفيول المستورد لحساب مؤسسة كهرباء لبنان، يجب أن تُقيّد في سجلات مصرف لبنان باعتبارها عملية تحويل للعملة يتم تنفيذها على أيدي موظفي مصرف لبنان للقيام بعملية التحويل إلى الخارج والتأكّد من الأوراق وسواها من الأمور التقنية والإدارية. لكن ما كان يحصل هو أمر مختلف تماماً. فمصرف لبنان كان يحصل على المبالغ بالليرة، وكان ينجز المعاملة لكنه كان يسجّلها في فرعَي حساب الـ100: يُقيِّد في الحساب الفرعي بالعملة الأجنبية مبلغاً على الدولة اللبنانية يتم تضمينه كأصول في موازنته، ويُقيّد في الحساب الفرعي بالعملة اللبنانية مبلغاً للدولة اللبنانية يتم تضمينه كالتزامات تجاه الدولة. أما الخزينة فكانت تسجّل في قيود الخزينة على أنها دُفعت من الاعتمادات المخصّصة لها في الموازنة.

إذاً، في عمله كصراف للدولة، فإن المسألة واضحة للعيان: عليه أن يحوّل المبلغ من الليرة إلى الدولار. وفي عمله كوسيط مالي، عليه أن يقوم بناءً على أوامر الصرف التي يتلقّاها من الخزينة، بتحويل الأموال من حساب الخزينة إلى الجهة التي يفترض أن تتلقّى الدفعة. لكنّ سلامة عدّل في هذه الوظيفة لتصبح أكثر انسجاماً مع المادة 91 من قانون النقد والتسليف التي تجيز له إقراض الحكومة في الحالات الاستثنائية. وهو بذلك، يقرّ بأنه يخالف قانون النقد والتسليف الذي يفرض عليه التعامل مع إقراض الحكومة كحالة استثنائية، لا كحالة تمتدّ من عام 2003 إلى اليوم. وهو بذلك، أيضاً، ينفخ موجوداته بالعملات الأجنبية زاعماً أن لا حاجة لديه إلى مزيد من الدولارات.

مصدرجريدة الأخبار
المادة السابقةالخطة الوطنية للطاقة المتجددة: عشر سنوات مشاريع وهمية
المقالة القادمةانتفاضة الصناديق: المواجهة الحتميّة