السيّاح الأوروبيون بين الدهشة والإرباك

أما وقد انتهى موسم الصيف في لبنان وتراجع معه زخم حملة «أهلا بالهطلة» التي شهدت وفق كل المعايير المحلية نجاحاً باهراً واستقطاباً غير مسبوق للسياح الأوروبيين لا بد من التساؤل: ماذا رأى هؤلاء في هذا البلد الذي لا يمكن التكهن بما يخبئه كل يوم جديد فيه من مفاجآت أمنية؟ ماذا لو حصل ما حصل بالأمس من استنفار وتبادل للقصف بين لبنان وإسرائيل في عز فترة الصيف هل كان الأوروبيون ليبدلوا رأيهم ويسارعوا إلى الهرب؟
ما الذي دعا السياح الأوروبيين للقدوم الى لبنان بعد امتناع طويل عنه؟ ما هي مواطن القوة التي جذبتهم إليه؟ وما هي نقاط الضعف في بنيته السياحية التي لم نعد نحن اللبنانيين نتنبه لها؟ لا ندعي في هذا التحقيق أننا أجرينا مسحاً شاملاً لآراء كل الزوار الأوروبيين لكننا اخذنا عينة منهم روت لنا كيف عاشت تجربتها اللبنانية هذا الصيف واستمتعت بها.

وصلت طائرة إيللي وجيرارد الى مطار رفيق الحريري الدولي عند الساعة الثامنة مساء قادمة من أمستردام ولكن بعد ساعتين ونصف لم يكن الزوجان قد خرجا من المطار ما اثار قلق سائق التاكسي الذي كان في انتظارهما ليظهرا بعدها منهكين متأففين. انتظرا في صف طويل أمام نقطة ختم الجوازات. عنصران فقط كانا يتوليان مهمة التدقيق في جوازات الأجانب الواصلين الى لبنان فيما أربعة يسهلون للبنانيين مرورهم بسرعة.

جيرارد الذي سبق له أن زار لبنان منذ أربعين سنة حين كان جندياً هولندياً في قوات الطوارئ الدولية إبان الاجتياح الإسرائيلي ومجزرة صبرا وشاتيلا لا تزال ذكرياته عن لبنان عالقة في ذلك الزمن وكان في الحقيقة خائفاً ومتردداً في العودة الى لبنان لكن تشجيع زوجته حثه على المجيء. وقفته الطويلة في المطار لم تساعد على تحسين الصورة ولا الرائحة التي فاحت في أنفه عند الخروج. اصر السائح الهولندي على حجز فندق لهما في منطقة جونية التي لا تزال أصداء أمجادها وأمنها اثناء الحرب الأهلية ترن في اذنه. لكن خيبة امله كانت كبيرة لحظة وصوله الى الفندق ليلاً ولم يجد فيه أي بار مفتوح لشرب كأس تزيل عنه غضب وتعب الانتظار. النوم لم يعرف لعيونهما سبيلاً لأن طريق جونية الشير الداخلي مرتع لدراجات نارية تحتله ليلاً وتتبارى في عبوره بأقصى سرعة وأعنف صوت دون رادع، مقلقة نوم السكان والسياح…

رحلة الزوجين السياحية امتدت الى مناطق لبنانية سمعا عنها ولم تخيب أملهما: حريصا، مغارة جعيتا، أنفه، بيت الدين، جبيل، البترون، حمانا حيث صور مسلسل الهيبة الذي تابعاه هناك في هولندا وارادا رؤية ساحته الشهيرة…لكن بيروت ولا سيما شارع الحمرا الذي لا تزال له ذكريات في بال كليهما شكل صدمة لهما بأفواج المتسولين الذين يفترشون أرصفته ويلحون على المارة بالطلب وجيوش الموبيلات التي تتنقل وسط السيارات معرضة السلامة العامة للخطر ومن دون أدنى وسائل الحماية… لم تبهرهما الداون تاون المقفرة الخالية من الحياة رغم جمال ابنيتها وكان تساؤلهما في محله: أين الناس؟ لماذا كل المحلات مقفلة في قلب العاصمة؟

لا داعي…للحذر

يوهان الشاب الالماني الذي عاد ليمضي عطلته في لبنان بعد أن عاش فيه لثلاثة اشهر ارتبط بعلاقة حب مع هذا البلد رغم صعاب عديدة واجهها في البداية لا سيما في إيجاد وسيلة التنقل المناسبة. من بين أهدافه السياحية زيارة متحف « مليتا» للسياحة الجهادية حيث يستعرض حزب الله اسلحة ومغانم حربية ويعرض افلاماً ووثائق عن عمليات المقاومة… زار يوهان المكان لكنه لم يخرج منه بدهشة مبالغة، فآثار مدينة الصور الفينيقية والرومانية اثارت فيه دهشة أكبر…يوهان لم يتاثر بتوصيات سفارة بلده بعدم زيارة أماكن تعتبر حذرة في لبنان. فزار طرابلس وعشق المدينة بحيويتها وأسواقها وقلعتها فهو لم يعش تجربة المدينة في بيروت المقسمة الى أحياء. تغدى في دير عمار وزار الهرمل ورأس العين واعتاد أن يتحلى من عند «صفصوف» في الطريق الجديدة. لم يجد يوهان في لبنان ما يدعو الى الحذر حتى بالنسبة للاجانب لكن ثمة مناطق خشي فيها التنقل وحده. اسوأ ما واجهه ليس الفوضى أو الأمن في لبنان بل اسعار التاكسيات ولا سيما التطبيقات مثل بولت وأوبر اللتين لم يلتزم سائقوها مرة بالتعرفة التي تعرض على التطبيق.

أغلى من أوروبا

كارل شاب سويدي عاش في لبنان أسعد أيامه فهو عاشق لـ»النرجيلة» والموسيقى العربية ومغنيته المفضلة سارة زكريا واغنيتها « تجي نتجوز بالسر»… كارل الذي أدمن السهر كل ليلة في نواد ليلية في برج حمود وواجهة بيروت البحرية وبدارو أحب كل الأماكن واندهش من هذه القدرة عند اللبنانيين على السهر ليلياً حتى في أيام الأسبوع وكأن لا اشغال عندهم في اليوم التالي. أزعجه ارتفاع أسعار المطاعم ووجوب دفع البخشيش في كل مكان «وكأنهم يسعون وراء دولاراتنا» يقولها صراحة «فالأسعار اغلى من أوروبا لكن الأكل أطيب بكثير». غلاء الأسعار لا يعني دائماً الجودة في نوعية الطعام المقدم فكارل اصيب بتسمم غذائي احتاج معه للبقاء في الفندق ثلاثة أيام.

السلامة العامة

في طريقه الى «أنفوريني» كاد أندرياس السائح الدنماركي أن يصاب بنوبة قلبية حين عبر به التاكسي نفق شكا المظلم الخالي من اية إشارة سير أو تحذير للسيارات بوجوب تشغيل المصابيح أو حتى خطوط فوسفورية في أرضه أو جوانبه. «إنها معجزة لبنانية أن تعبر السيارات فيه بامان لا يسقط ضحايا داخله كل يوم» يقول. كذلك خشي التجول في مغارة جعيتا دون خوذة تحمي رأسه من حوادث محتملة وتعجب كيف لا تراعى شروط السلامة العامة في مكان سياحي كهذا وخاصة بالنسبة للاطفال…

ميشال الصبية السويسرية التي زارت لبنان في العطلة قبل ان تأتي للسكن فيه تقول «ما حيرني في الأيام القليلة الأولى في بيروت أن قانون السير يبدو غير موجود. وكنت خائفة في البداية من عبور الشوارع، ولكنني أدركت بعد بضعة ايام أن السائقين يولون اهتماماً أكبر للركاب مما يفعله السائقون في سويسرا وأنني أستطيع التنقل بحرية أكبر. كما أن الناس هنا أكثر استرخاءً من السويسريين العصبيين دوماً. ومع ذلك، لا أزال أخشى حقيقة عدم وجود أحزمة أمان معظم الأوقات في التاكسي او السرفيس الذي لم أفهم مبدأه بعد».

شيء واحد افتقدته ميشال في بيروت، وهو عدم وجود مناطق خضراء للاسترخاء واستعادة الطاقة. «أنا معتادة جداً على وجود الطبيعة أمام باب منزلي حتى في مدينة زيوريخ وأشعر في بيروت أنني مسجونة بين المباني العالية. لحسن الحظ، لدي حديقة الجامعة الأميركية في بيروت (AUB)، واتأسف أن القليل من مواطني بيروت لديهم إمكانية الوصول إلى الحرم الجامعي».

مثل ميشال الأمور البيئية أزعجت بدورها يولين الزائرة الهولندية. فهي المعتادة على الاخضرار ونقاء الأجواء قرب أوتريخت الهولندية رأت من شرفة فندقها في الأشرفية طبقة كثيفة من الغبار والتلوث تغطي مدينة بيروت صباحاً ما أخافها ودفع بها للانتقال مع زوجها وطفلها الصغير الى بيت ضيافة في منطقة بشري للاستمتاع بهواء نقي وللسيرعلى درب الجبل الذي اكتشفاه عبر الانترنت وسمعا عنه كثيراً. كذلك لم يستطع زوجها يان الذي يهوى الركض صباحاً ممارسة هذه الرياضة في شوارع الأشرفية لكنه وجد ضالته على الكورنيش البحري وتفاجأ بكمية الناس الذين يمارسون رياضتهم الصباحية هناك.

التنقل في بيروت صعب وفوضى السير مقلقة، هذا ما يجمع عليه كل السياح لكنها مغامرة يقولون تستحق أن يختبرها السائح ربما ليعرف نعمة القانون التي يعيشها في بلده. لكنهم في المقابل يؤكدون على ميزة اللطف والاهتمام التي يتميز بها اللبنانيون وعلى قدرتهم الفائقة على مواجهة التحديات والصعوبات. «لقد تعلمت من الناس في بيروت أن أكون قادرة على تحمل المواقف الصعبة والثقة في أنه في النهاية سيكون هناك حل. تعلمت عدم اتخاذ الحياة بجدية ولكن بحس الفكاهة وأكثر ما اثر بي مساعدة الناس لبعضها البعض. لم ألتق في حياتي مطلقاً بأشخاص مستعدين أن يقفوا جنبي حتى تُحل مشكلتي كما وجدت في لبنان. لقد عرفت دفئاً عظيماً واستقبالاً رائعاً وشعرت بالخجل عندما فكرت في الطريقة الجافة التي نعامل بها الأجانب في سويسرا».

تمييز غير مقبول

صوفيا الصبية الفنلدية التي تهوى التاريخ زارت عدة أماكن سياحية وأثرية في لبنان تفاجأت بالتمييز في أسعار الدخول الى هذه الأماكن بين اللبنانيين والعرب والأوروبيين الذين يدفعون المبلغ الأعلى. ففي بيت الدين مثلاً رسم دخول اللبناني 100000 والعربي 400000 فيما الأوروبي عليه دفع 800000. ورغم هذا التمييز أحبت صوفيا قصر الأمير بشير لكنها تمنت لو كانت هناك شروحات مختصرة معلقة على مداخل كل قاعة ليفهم الزائر ماهيتها وتاريخها والأمر ذاته ينسحب على قلعة بعلبك حيث لم تتمكن من إيجاد دليل سياحي يساعدها على فهم تاريخ القلعة وتعريفها بمختلف أقسامها.

كريستين السائحة والصحافية الفرنسية لم تصدق كيف ان بلداً مفلساً في المبدأ يمكن أن يعيش شعبه بهذه اللامبالاة وكيف تكون مطاعم بيروت ومقاهيها ممتلئة في حين لا يجد المواطنون في المناطق الشعبية ما يسدون به جوعهم. وذهلت كيف يتم الانتقال بدقائق من أحياء فقيرة يتكدس فيها النازحون السوريون الى جانب الفقراء اللبنانيين كما في برج حمود الى شوارع سياحية تزخر بالـ PUBS والمطاعم والملاهي الليلية كما في مار مخايل والجميزة او في محيط الستاركو حيث السيارات الفاخرة تصطف على جوانب الطرقات فيما 50 متراً صعوداً لا تزال كتابات الثورة وآثارها ظاهرة على الجدران…

الطرقات المعتمة ليلاً، النفايات على الشاطئ، أعقاب السجائر في الشوارع حتى السياحية منها، السيارات التي تتنقل بلا لوحات وسائقو الدراجات النارية الذين يتسللون بين السيارات بلا خوذ، التكلم بالهاتف اثناء القيادة او تصفح مواقع التواصل وعدم استخدام حزام الأمان… كلها عظائم أربكت السياح الأوروبيين لكنها لم تنغص رحلتهم الى لبنان البلد الزاخر بمواطن الجمال والمتخم بالطعام الشهي والممتلئ بطاقة ايجابية كما يقولون قلما يجدونها في بلدانهم. كلهم متلهفون للعودة في الصيف المقبل…

 

مصدرنداء الوطن - زيزي إسطفان
المادة السابقةتوقيف مقالع وكسارات البترون: لا محاسبة ولا من يحاسبون!
المقالة القادمةإقفال أكثر من 100 مؤسسة غير شرعية