يبدو أن الدولة العلية تعيش في وادٍ، والهيئات الإقتصادية في واد اخر، والناس الغلابى في واد ثالث، ويظهر المشهد وكأن ثمة مسافات فلكية تُباعد بين الأطراف الثلاثة، في التوجهات وفي التفكير وفي الخطوات التنفيذية!
إضراب الموظفين في مختلف الوزارات والإدارات العامة كشف عجز الدولة عن دفع الرواتب بشكل منتظم، فضلاً عن عدم قدرتها على توفير التقديمات الإجتماعية، وبدل النقليات، بما يمكّن الموظف من الحضور إلى مكان عمله، دون أن يتكبد نفقات الإنتقال من جيبه، وعلى حساب لقمة عيش أولاده. ولا بد من التذكير بأن هذا الإضراب يُؤدي إلى خسارة خزينة الدولة مليارات الليرات يومياً بسبب إقفال دوائر الضرائب والرسوم العقارية ومكاتب القيمة المضافة((TVA ، وكل ما له علاقة بجبايات الخزينة!
أما الهيئات الإقتصادية فقد إنزلق بعض أركانها إلى الخطابات الشعبوية في نقاشاتهم لمشاكل الرواتب في القطاع الخاص، حيث يطرحون أرقاماً للرواتب وبدل النقليات، قد تبدو محقة للوهلة الأولى، في ظل نسبة التضخم التي وصلت إلى ٢٠٠ بالمئة، ولكنها لا تأخذ بعين الإعتبار واقع المؤسسات الصناعية والتجارية، وفي مختلف القطاعات الأخرى، والتي تُعاني بأكثريتها المطلقة من صعوبات مالية جمة، تبدأ بالركود المهيمن على الأسواق، ولا تنتهي بحجز أموالها في المصارف، التي تتفنن إداراتها في عمليات إبتزاز المؤسسات، والتسلط على قسم من ودائعهم، عبر رسوم غير قانونية، وإقتطاعات من المبالغ النقدية، حتى ولو كانت لتسديد قيمة الرواتب الموطّنة في البنك منذ عشرات السنوات، وكل ذلك دون حسيب أو رقيب، ووفق حالات إستنسابية تختلف أرقامها بين مصرف وآخر!
أما الناس الغلابى، فهم الحطب الحريق في جهنم التي أوصلتنا المنظومة إليها في خضم هذه الإنهيارات المستمرة، والذين يتحملون من الأعباء ما تنوء بحمله الجبال، بسبب التدهور المتزايد في العملة الوطنية، وتفلت الأسعار الجنونية من أي رقابة وإنضباط، بالإضافة إلى جنوح السلطات المالية إلى دولرة الإقتصاد والحركة التجارية اليومية، رغم كل الشح الذي يعاني منه البلد في الحصول على العملة الخضراء.
أنه مشهد سريالي محزن يخلط الحابل بالنابل، ويزيد الأوضاع تعقيداً بسبب عجز المنظومة الحاكمة، وفشلها في إدارة الأزمة المستفحلة، وعدم قدرتها على إتخاذ القرارات الإنقاذية اللازمة!