إنعكست نتائج اللقاء الرئاسي العاجل الذي انعقد مساء الاثنين في بعبدا، أمس، برداً وسلاماً أوقفا الاضرابات والاعتراضات على مشاريع الخفض المالي الواردة في مشروع موازنة 2019، فعلّق موظفو مصرف لبنان إضرابهم الى بعد غد الجمعة ما شكل ذوبان رأس “جبل الجليد” في اضرابات مختلف القطاعات التي سارعت الى تعليق اضراباتها آملة ان تأتي الموازنة لدى إقرارها بعد غد في مجلس الوزراء خلواً من أي خفض لرواتب موظفيها وتعويضاتهم. وقال قطب نيابي بارز لـ”الجمهورية” انّ الرؤساء الثلاثة ميشال عون ونبيه بري وسعد الحريري اتفقوا في لقائهم على “تدوير الزوايا” بما يسهّل إقرار الموازنة سريعاً من دون المسّ برواتب اي قطاع، وخصوصاً ذوي الدخل من مستوى ستة ملايين ليرة وما دون، على ان يحصل الخفض في قيمة الاعمال الاضافية التي يبلغ بعضها أحياناً 3 أضعاف الراتب، فضلاً عن توحيد المعايير والتعويضات في صناديق التعاضد وغيرها من المجالات المطروحة على مشرحة الخفض.
غداة اللقاء الرئاسي أمس الاول وعلى أثر جلسة مجلس الوزراء أمس، لاحظ المراقبون أنّ الموازنة دخلت مرحلة التجميل وحسن التظهير، وذلك بعد قطوع مرّ عليها، وهو الثاني في أقل من أسبوع، على خلفية إضراب موظفي مصرف لبنان وما رافقه من عاصفة إشاعات ضربت البلد وأقلقت المواطنين على مصيره. وشكّلت جلسة الاثنين عصف نقدي ذاتي للحكومة التي تعاطفت مع رئيسها في صرخة أطلقها في مستهلها، قائلاً: “علينا أن نعي ماذا نفعل وماذا نقرر ولا يمكن التراجع ولو عدّلنا بعض الأمور، فعدم القيام بإصلاحات سيوصل البلد الى الانهيار، ويجب الاسراع في اقرار موازنة تُخفّض العجز وتوقف الهدر وتكافح الفساد وتعطي حوافز لتحريك الاقتصاد”، مضيفاً: ”البنود المعلقة علينا ان نتوافق عليها جميعاً”.
وعلّق وزير المال علي حسن خليل موجّهاً سهام الاتهام الى ما سمّاها “أوركسترا عم تِشتِغل بالبلد”. وتخوّفَ من ”تراجع التحويلات والمعاملات في سندات الخزينة بسبب إضراب لا أحد يعرف أسبابه، فلم يطرح مجرد التفكير بإخضاع المصرف المركزي، أمّا الامتيازات فلماذا لا تكون عادلة ومتساوية بين الجميع؟”.
وتوالى الوزراء على تشخيص الحالة وإبراز الصورة السيئة التي تعكسها التصريحات والاضرابات، فقال الوزير وائل ابو فاعور: “منذ بداية النقاش لم ينقل عنّا اي بطولات واحترمنا سرية المداولات لأنّ المرحلة صعبة، والمُساءلة تقتضي المسؤولية”. واضاف: “تخوّف الناس من المساس بمصالحهم وهم ليسوا واثقين من أنّ الاجراءات التي ستطاولهم ستذهب في الاتجاه الصحيح، لأنّ منطق الحماية السياسية لا مفرّ منه من قبل البعض، يجب ان نأخذ خطوات نحو التقشف وان نبدأ برأس الهرم”.
وتدخّل نائب رئيس الحكومة غسان حاصباني منتقداً “التسريب الجزئي الذي يؤثر سلباً وسلفاً على مسار الجلسات”. واقترح تحديد “الخطوات الكبرى لطمأنة الناس الى انّ كل القطاعات ستساهم وليس قطاعاً على حساب آخر، وان تكون الخطة الاصلاحية متكاملة”، وقال: “الأفضل التطرق الى البنود الكبيرة وليس الصغيرة التي تُثير ضجة في الخارج فتكون الاجراءات package”. وإذ وافقه وزير المال على موقفه، رأى الوزير محمد فنيش انّ ما يحصل متوقع، طالباً “موقفاً حازماً من الدولة والتعاطي بجدية مع بعض المرافق”.
وانتهى النقاش المتشعّب والمستفيض الى تأجيل بَت بعض البنود وطلب تغيير أو تحديد أخرى، وخصوصاً تحديد المؤسسات العامة التي تخضع موازنتها وحساباتها المالية لمصادقة وزارة المال.
وكان للوزير جبران باسيل موقف متقدم شدّد فيه على دعم الاصلاحات الى النهاية “بحيث تكون سلة كاملة من دون تجزئة”. وطلب “ان يسري الاتفاق من مجلس الوزراء الى مجلس النواب، وليس كما حصل في السابق مع السلسلة عندما رفضناها في مجلس الوزراء ووافقنا على إقرارها في مجلس النواب”.
وعلمت “الجمهورية” أنّ مجلس الوزراء وافق في جلسته أمس على الآتي: – إقتطاع 3% من الراتب التقاعدي عند الجيش والقوى الامنية كمساهمة للطبابة. – تحديد راتب ونصف راتب تعويض مشاركة موظفين في لجان واجتماعات.- تحديد سقف 20% ضعف الحد الادنى لموظف في الدولة براتب عال او يتقاضى اكثر من راتب، على ان تحدد الحكومة الاستثناءات لبعض الهيئات.
وتم الاتفاق على تعليق المادة 60 من الموازنة التي تحدد العلاقة بين وزير المال والمؤسسات العامة، لتدرس على حدة خارج الموازنة وتصدر في شأنها قرارات ومراسيم مستقلة.
وتحدّث وزير الإعلام جمال الجرّاح بعد الجلسة عن إمكانية خفض رواتب الرؤساء والوزراء والنواب 50%، مؤكداً أنّ “الجوّ متّجه نحو خفض الرواتب، ككل القطاعات التي يُحكى عن خفض إضافات الرواتب فيها وليس أساس الراتب، أما بالنسبة إلى السلطات العامة، فهناك جوّ إيجابي لخفض رواتبها، فالمرء يجب أن يبدأ بنفسه”.
وأكّد الجراح أنّ “موضوع الأجهزة الأمنية والعسكرية سيُدرس كسلّة واحدة، ولن تدرَس التجهيزات وحدها والتقاعد وحده والراتب وحده، ووزير الدفاع سيأتي بالجداول بشكل نهائي والأرقام لنتّخذ القرارات بشأنها اليوم”.
شهيّب وقال الوزير اكرم شهيّب لـ”الجمهورية”: “لدينا الكثير من الكلام، ونحن مشاركون في كل الإجراءات التقشفية، وذاهبون بها حتى النهاية، وحساباتنا تنطلق من عدم المساس بالطبقة الفقيرة، والإصلاحات يجب ان تكون على حساب من يملك، وأبرزهم المعتدون على الاملاك البحرية”.
وكانت حساسية الاوضاع ودقتها استدعت أمس الاول لقاء للرؤساء الثلاثة قلب بنتائجه الصورة رأساً على عقب، مبرّداً الاجواء ومانحاً الحكومة قوة دفع اضافية. وكانت بداية التبريد تعليق موظفي مصرف لبنان إضرابهم الى الجمعة. وبعد ساعات أثمرت زيارة رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر على رأس وفد ضمّ رؤساء نقابات مستخدمي المصالح المستقلة والمؤسسات العامة في لبنان لرئيس الجمهورية، تعليق الإضراب ابتداء من صباح اليوم في مرفأ بيروت والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ومؤسسة كهرباء لبنان وهيئة “أوجيرو”.
برّي وأعرب بري عن ارتياحه الى الأجواء التي سادت لقاء بعبدا، وأشار الى انّ البحث تناول موضوع الموازنة وما يحوط بها من نقاشات وأفكار لإصدارها متوازنة. ولخّص نتيجة هذا اللقاء بالآتي:
-1 توافقنا على التعجيل في الموازنة، بحيث يفترض ان تنجز قبل نهاية الاسبوع الجاري، وعلى الارجح يوم السبت. وفي هذه الحال، يفترض ان تحال الى مجلس النواب الاسبوع المقبل، وكما قلت نحن في انتظارها، وعلى الاقل نحتاج الى فترة شهر لدرسها وإقرارها في اللجنة المالية والهيئة العامة للمجلس.
-2 إستغربنا التحركات التي تقوم بها بعض القطاعات غير المعنية بالموازنة لا من قريب او بعيد، وهذا يجعلنا نطرح علامة استفهام حول الدافع ومن يدفع الى هذه التحركات.
-3 قلت أمام الرئيسين عون والحريري انّ التعجيل هو الاساس، ونحن لدينا الآن فرصة ثمينة للقيام بإصلاحات علينا ان نستغلها. -4 لا بد من ان نصل الى موازنة، تخفض العجز الى ما دون 9%. ولا بد بالتالي من التضحية، وشراكة الجميع في هذه التضحية، خصوصاً في ما خَص الرواتب المالية، مع التشديد على رفض ان تمسّ التخفيضات الفئات المتوسطة والفقيرة”. ورداً على سؤال قال بري: “بالتأكيد انّ اقرار الموازنة يعجّل بـ”سيدر”، لأنها مرتبطة به بشكل أو بآخر، وهذا الأمر من شأنه ان يشكّل رافداً لانعاش الاقتصاد اللبناني”. وحول خفض رواتب الرؤساء والوزراء والنواب، قال بري: “بالتأكيد سيشمل الخفض الجميع، الّا الطبقات الوسطى والفقيرة وذوي الدخل المحدود”.
من لقاء بعبدا الى ذلك، قالت مصادر مطلعة لـ”الجمهورية” انّ اللقاء الرئاسي انعقد بناء على دعوة رئيس الجمهورية، الذي شدّد في اتصالاته مع بري والحريري على أهمية مواجهة التحركات المطلبية وموجة الهلع في السوق المالية، التي يمكن ان تؤدي الى ما لا يحمد عقباه، وضرورة التصدي لكل هذه التحركات بموقف موحد يطمئن الناس الى انّ الدولة تَعي مخاطر الوضع، وانّ لديها ابواباً كثيرة للخروج من المأزق.
وقالت المصادر انّ عون دعا الى “توحيد الموقف الرسمي ووَقف التَناتش بين المواقع، وتبادل الرسائل المشفّرة وتوضيحها لتتلاقى على الحد الأدنى من المعالجات الممكنة”. ولفت الى انه “يمكن ان نبدأ بتحديد ابواب التقشف من فوق الى تحت، من دون المس بذوي الدخل المحدود والمتوسط”.
ولفتت المصادر الى “انّ المصارحة التي سادت اللقاء بُنيت على دراسات وآراء كان رئيس الجمهورية قد وضعها في ورقة عمل شاملة ومتكاملة تناولت ما هو مطروح بعناوينه الكبرى”، لافتاً الى “ضرورة توحيد المواقف من امور أساسية منها ما يتصل باستقلالية مصرف لبنان المركزي، إذ ليس أوان تعديل قانون النقد والتسليف ولا ممارسة اي وصاية على المصرف أو تدخّل خارج هذا القانون الذي يحكم العلاقة بينه وبين وزارة المال”.
وتمّ التشديد على حماية مكتسبات العسكريين المتقاعدين، فما يحصلون عليه ليس من موارد الخزينة انما هو من مدّخراتهم منذ دخولهم السلك العسكري الى مرحلة التقاعد، وان في الإمكان اعادة النظر في بعض التدابير التي لا تمسّ معنويات القوى العسكرية وقدراتها القتالية