مبنى «تاتش»: هندسات قانونيّة أدّت إلى هدر 80 مليون دولار!

أعيد إحياء قضية مبنى «تاتش» من بوابة الدعوى الجزائية التي تقدّم بها المساهم وسيم منصور. يتّهم منصور كلاً من إدارة «تاتش» والوزيرين محمد شقير وجمال الجراح، إضافة إلى أصحاب المبنى بتهم تصل عقوبتها إلى سنوات من السجن، وتشمل «صرف النفوذ والرشوة وإساءة استعمال السلطة وتبييض الأموال». في الدعوى قرائن وأدلة على إجراء «هندسات» مالية وقانونية هدفت للاستيلاء على المال العام، وأدت في النهاية إلى دفع 100 مليون دولار ثمناً لمبنى تُقدر قيمته بـ22 مليون دولار

قضية مبنى تاتش، الذي دُفع ثمنه أموالاً طائلة، لم تمت. حتى بعدما حاول وزير الاتصالات السابق محمد شقير تغطية فضيحة سلفه المتمثّلة بدفع إيجار هائل وغير مستحق ثمناً للمبنى، ذهب إلى فضيحة أكبر، من خلال تحويل عقد الإيجار إلى عقد شراء بثمن باهظ أيضاً. إيحاؤه أنه قام بعمل بطولي في توفيره على الدولة 94 مليون دولار، كان يفترض أن يُستكمل بالادّعاء على من كان يريد تبديد هذا المبلغ، لكنه لم يفعل، مفضّلاً التستّر على فعل هو نفسه شكّك في صوابيته.
أُقفل الملف حينه على «إنجاز» شراء المبنى من دون أن يحقق أحد بأسباب هدر نحو 100 مليون دولار من المال العام. حتى الوزير الحالي لم يحرك الملف. لكن أخيراً أعاد المُساهم في شركة «تاتش» وسيم منصور إحياء القضية من الباب العريض، رافعاً دعوى جزائية، أمام قاضي التحقيق الأول في بيروت، ضد كل من: رئيس مجلس إدارة «ميك 2» بدر الخرافي، المدير العام لشركة إمري غوركان، رئيس مجلس إدارة شركة «سيتي ديفلوبمنت» (مالكة العقار) سمير كرم، رئيس مجلس إدارة شركة Realty Group AC (الشركة التي كانت شريكاً في الصفقة) حسين عياش، الوزيرين جمال الجراح ومحمد شقير، «إضافة إلى كل من يظهره التحقيق فاعلاً ومتدخلاً أو محرضاً». كما طالب المدعي بإدخال الدولة اللبنانية ممثلة بهيئة القضايا في دعوى «صرف النفوذ والرشوة وإساءة استعمال السلطة وتبييض الأموال» التي قدّمها.

في 13 تموز 2018، وقّعت شركة «تاتش» عقد إيجار مبنى جديد مع شركة «سيتي ديفلوبمنت»، بقيمة 6.4 ملايين دولار للسنة الأولى، على أن ترتفع قيمة الإيجار بنسبة 1.5 في المئة سنوياً، بما يُشكّل ما مجموعه 68 مليوناً و500 ألف دولار خلال 10 سنوات (يمكن بعدها فضّ العقد بدون تعويضات).

لم يكن المبنى منجزاً عندما بدأ التفاوض بشأنه (على العظم). لكن «تاتش» تكفّلت بإنجازه من خلال عقد مع شركة SEG وصلت قيمته إلى 22.6 مليون دولار. لم يُحسم هذا المبلغ من الإيجار، بل على العكس ساهم في رفع قيمة المبنى. فبدلاً من أن تستأجر الشركة العقار بوصفه غير منجز، دفعت ثمن إنجازه ثم استأجرته بعقد «Core and Shell» (المبنى منجز مع الأقسام المشتركة، على أن تُترك المساحات الداخلية لتنجز من قبل المستأجر). فدفعت فارقاً بالإيجار يُقدر، بحسب حسابات الشركة، بـ58 في المئة، من دون الأخذ في الاعتبار أن «ميك 2» هي التي أنجزت المبنى بأموالها. وإضافة إلى ذلك، لم يتم التمييز بين إيجار الطوابق السفلية وبين الطوابق الأرضية، بما يتعارض مع تقارير الخبراء الذين عاينوا المبنى.

من الملاحظات المشار إليها في نص الدعوى أن «مجموع بدلات الإيجار على مدى 10 سنوات تبلغ 68.5 مليون دولار، أي المبلغ نفسه الذي حُدد ثمناً للبيع لاحقاً. بمعنى أن بدل إيجار مبنى قيد الإنجاز وصل إلى نحو 10 في المئة من ثمن مبيعه بعد إنجازه، وهي نسبة طائلة تتجاوز ستة أضعاف وضع السوق (من دون احتساب المبلغ الذي دُفع لإنجازه). كذلك، كان لافتاً أن «عقد الإيجار لم يحظ بموافقة الجمعية العمومية لـ«ميك 2» ولا بموافقة ديوان المحاسبة، كما لم يثبت قط موافقة لجنة المالكين عليه».
فصل جديد في القضية فتحه محمد شقير بعد تسلّمه حقيبة الاتصالات خلفاً للجراح. في 31 تموز 2019، تم توقيع عقد البيع بين «سيتي ديفلوبمنت» و«ميك 2». وقد حُدد ثمن المبيع بــ 68 مليوناً و600 ألف دولار (كلفة الإيجار لـ10 سنوات). كما اتُّفق على دفع 23 مليوناً و600 ألف دولار فور توقيع العقد، فيما الدفعات الباقية قُسّمت على ثلاث دفعات (15 مليون دولار تُدفع بتاريخ 15 كانون الثاني لأعوام 2020 و2021 و2022، ويضاف إليها فوائد بقيمة 5.1 ملايين دولار).

وفيما جاء في عقد البيع أن عقد الإيجار يُعتبر مفسوخاً ابتداء من توقيعه الحاصل في 31 تموز، لم تتم الإشارة إلى كيفية استرداد المبالغ التي تم تسديدها سلفاً سواء لاستكمال العقار أو بدل إيجار السنة الأولى، التي بدأت في 1/4/2019، والبالغ 6.4 ملايين دولار. علماً أن «ميك 2» استفادت من الإيجار عملياً مدة 4 أشهر من أصل سنة، ما يعني أنها دفعت قيمة إيجار الأشهر الـ 8 المتبقية من السنة والبالغ ثمنها 4.267 ملايين دولار، من دون الاستفادة منها. وبحسب، نص الدعوى لم يتم إيجاد أي مستند يثبت مطالبة «ميك 2» باستعادة أيّ من هذه المبالغ.

وبالتالي، إذا جُمعت المبالغ المسدّدة فعلياً، فإن ثمن العقار يكون قد بلغ 100.567 مليون دولار، موزّعة كالتالي: ثمن المبيع في عقد البيع 68.6 مليون دولار، الفوائد المحددة في العقد 5.1 ملايين دولار، المبالغ المسددة لاستكمال المبنى 22.6 مليون دولار، المبالغ المسددة بموجب عقد الإيجار عن الفترة اللاحقة للعقد 4.267 ملايين دولار.

في الخلاصة، يخلص الوكيل القانوني لمنصور، المحامي نزار صاغية، في الدعوى المرفوعة أمام القضاء الجزائي، إلى أن إبرام صفقتَي الإيجار واستكمال المبنى ترافق مع هندسات قانونية ومالية، يستشفّ منها وجود إرادة بضمان تقسيم الربح الناجم عن هذين العقدين على مجموعتين مختلفتين: الأولى تتمثل بآل كرم، مالكي شركة «سيتي ديفلوبمنت»، والثانية تتمثل بحسين عياش بصفته الشخصية أو بصفته اسماً مستعاراً لأشخاص معينين.

100 مليون بدلاً من 22 مليوناً
وهذه الخلاصة يتوصل لها صاغية من الوقائع التالية:
تأسيس شركتين في الوقت نفسه قبيل إبرام عقد الإيجار (26/4/2018)، وهما تحديداً: شركة AC Realty المملوكة من حسين عيّاش وشركة BC 1526 المملوكة من نبيل كرم (تأسست في 2/5/2018).
ضمان بيع العقار للشركتين المُنشأتين حديثاً لضمان اقتسام المنافع غير الشرعية بين المجموعات المعنية بالصفقة. وهذا ما يتحصّل من خلال محضر صدر عن مجلس إدارة شركة AC Realty بتاريخ 24/5/2018، حيث تمت الموافقة على حصول قرض مالي بالتكافل مع شركة BC 1526 طويل الأجل من فرنسبنك بقيمة 22 مليوناً و174 ألف دولار أميركي لتمويل عملية شراء البلوكين B وC، في مقابل التنازل لمصلحة فرنسبنك عن كامل المبالغ الناجمة عن بدلات الإيجار المعقود مع شركة «ميك 2»، مع التأمين على القرض بضمانة العقار 1526/ الباشورة.
يُفهم من ذلك أن الشركتين أنشئتا قبل التوقيع على عقد الإيجار وبمناسبة التفاوض عليه، بحيث استُخدمتا كأداة لضمان حقوق الفرقاء المعنيين بالصفقة. ومن شأن هذا الأمر أن يشكّل شبهة على حصول شركة AC المؤسسة بمناسبة هذا العقد على أرباح طائلة من دون مبرّر.

شركتان أنشئتا قُبيل توقيع عقد الإيجار وحصلتا على 22 مليون دولار بضمانه!
وما يعزّز ذلك هو أن شركة AC ليس لها أي رصيد خاصّ في لبنان ولم تقدم أي رأسمال، بل إنها استخدمت عقد الإيجار ذات البدلات المضخّمة للحصول على القرض من فرنسبنك لشراء العقار. أي أن رأسمالها الوحيد للحصول على قرض بقيمة 22 مليون دولار وشراء نصف العقار تمثّل في أمر واحد، هو صفقتا الإيجار (بقيمة تتجاوز 68 مليون د.أ) واستكمال المبنى (بقيمة تتجاوز 23 مليون دولار). وهذا الأمر إنما يشكّل دليلاً قاطعاً على إبرام الصفقة لمصلحة هذه المجموعة بشكل خاص.

من الثابت أن تحديد قيمة القرض بـ 22 مليون دولار لشراء المبنيين يؤشّر إلى أنه يمثّل القيمة الحقيقية لهما قبل استكماله على نفقة شركة «ميك 2»، طالما أنه لم يكن لشركة AC أي رأسمال في الأساس ولم يثبت استخدامها أي مبلغ إضافي في هذا الخصوص، وعلماً أن المبنى لم يكن منجزاً آنذاك. وهذا الأمر إنما يكشف الإجحاف الحاصل في حق الدولة سواء في عقد الإيجار أو في عقد البيع لاحقاً، حيث دفعت في الحالتين أضعاف ما عليها دفعه. وهذا ما يمكن التأكد منه من مراجعة عقد القرض المبرم بين الشركتين وفرنسبنك.

مصدرإيلي الفرزلي - الأخبار
المادة السابقةإجراءات مصرفية جديدة للحدّ من السحوبات النقدية بالليرة اللبنانية
المقالة القادمةأي تدقيق جنائي تريد السلطة؟