ملخّص لقاءات راميريز: أنتم مفلسون ومحتالون | «ليس هناك أموال في النظام المصرفي»

لم يكن مفاجئاً أن يكون نفي واقعة «الإفلاس» المهمة الأساسية لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي ولحاكم مصرف لبنان رياض سلامة؛ فالأول جزم بأن الدولة تعاني من مشكلة سيولة، وقال الثاني إن هناك خسائر «قيد المعالجة». ما الفرق بين ما قاله الشامي، وما قاله ميقاتي وسلامة؟ ما هو الواقع؟ الواقع هو تلك المعطيات التي كرّرها رئيس بعثة صندوق النقد إلى لبنان أرنستو راميريز في اجتماعاته مع الأطراف التي يعتقد أنها معنية، والتي يمكن تلخيصها بالعبارة الآتية: أنتم مفلسون ومحتالون، والإنكار لا يفيدكم لأنه لم يعد لديكم أموال في النظام المصرفي.

أزمة سيولة؟

كلمة «الإفلاس» هي تعبير قانوني لنظام يهدف إلى تصفية شركة تجارية وحماية حقوق الغير. بهذا المعنى، إن إطلاق توصيف «إفلاس» على الدولة، ليس في محلّه، لأن الدولة لديها كل الثروات في باطن الأرض وظاهرها وجوّها، ولديها القدرة، مع مصرف لبنان، على طبع الأموال وضخّها في السوق، أي أنها لا تفلس. لكن لم يكن هذا هو السبب الذي دفع الرئيس نجيب ميقاتي إلى «تصحيح» تصريح نائبه سعادة الشامي عن «إفلاس الدولة ومصرف لبنان» من خلال القول إن «الدولة تعاني من أزمة سيولة». وفي السياق نفسه أيضاً، اختار حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أن يردّ على الشامي بالقول إن «هناك خسائر قيد المعالجة».

في الواقع، كلام ميقاتي، خاطئ بالمطلق، إذ لو كانت السيولة هي المشكلة لكان يمكن معالجتها من خلال السيولة بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان التي بلغت 31.9 مليار دولار في كانون الثاني 2019. مذّاك أنفقنا نحو 19.1 مليار دولار، أي أكثر بكثير من الاستحقاقات المترتّبة على الدولة للدائنين. لكن المشكلة الفعلية كانت في الملاءة، إذ كان هناك اختلال بنيويّ في القدرة على السداد، ولم يكن ممكناً تسديد الاستحقاقات من دون الاستمرار بعملية الاحتيال المسماة «مخطّط بونزي». كان الأمر يتطلب استقطاب أموال جديدة لتسديد الأموال القديمة مع فوائدها، لكن لم يعد هناك من يقرض لبنان، فانهارت عملية الاحتيال وبقيت السيولة متوافرة لدى مصرف لبنان. عندها تحققت الخسائر، إذ استحقت فجأة كل الالتزامات وأطلقت ما يسمى «انهياراً في بنية النظام» أو «انهياراً نظامياً». وربما هذا السبب وراء هروب سلامة واستعمال عبارة «خسائر قيد المعالجة». وهنا يكمن أصل القصّة بكاملها. فالمشكلة لا تتعلق بالتوصيف، أو بتعريف الإفلاس قانوناً، بل بمن يتحمّل الخسائر. بالنسبة إلى ميقاتي، فإنه يعتقد أن بالإمكان إعادة تكوين الودائع حالما تتوافر السيولة، وهذا الأمر نفسه هو قناعة لدى سلامة، لكن الواقع يشير إلى أن إعادة تكوين الودائع تتطلب إعادة إطلاق عملية احتيالية لتسديد الخسائر السابقة أو قسم منها بأموال جديدة. هذا الأمر تحديداً هو الذي يدفع صندوق النقد الدولي إلى مطالبة الدولة اللبنانية بإقرار الـ«كابيتال كونترول» قبل الموافقة على إقراض لبنان. خوف صندوق النقد أن يعاد إحياء الـ«بونزي» وتبديد الأموال التي يفترض أنها ستعود إليه في المستقبل!

راميريز ينطق «الواقع»

ثمة واقع لا يمكن إنكاره مهما اختلفت التسميات والتوصيفات. لكن المشكلة في أن رمز الرأسمالية والهيمنة المالية على العالم، أي صندوق النقد الدولي، هو من ينطق بهذا الواقع. لو أردنا تفسير مجمل ما قاله رئيس بعثة صندوق النقد إلى لبنان أرنستو راميريز ريغو، في اللقاءات التي عقدها في إطار البعثة التي تنهي عملها في لبنان يوم الجمعة المقبل، فهو يُختصر بعبارة: «أنتم محتالون». فقد التقى راميريز كلاً من ممثلي المودعين، ممثلي نقابات المهن الحرّة، ممثلي هيئات أصحاب العمل، أعضاء في مجلس إدارة جمعية المصارف… في بعض هذه الاجتماعات، قال راميريز الآتي: «أنتم تسرقون أنفسكم منذ 30 سنة وتعيشون على ودائعكم». وكرّر في معظم اللقاءات أن حجم الخسائر البالغ 73 مليار دولار لا يشمل كل الخسائر. فبالإضافة إلى وجود متأخّرات على الدولة اللبنانية بقيمة توازي 7% من الناتج المحلي الإجمالي، أي نحو 1.2 مليار دولار، لم تُحتسب خسائر سندات اليوروبوندز بعد. القيمة الاسمية لهذه السندات وفوائدها تقدّر بنحو 3 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي. والصندوق يقدّر حجم الناتج في لبنان بنحو 17 مليار دولار، أي أن الخسائر، بلا اليوروبوندز والالتزامات على الدولة، تساوي 4.3 مرات حجم الناتج، وأنها مرشحة لتصبح مساوية لـ 6 مرات الناتج، إذا كان الهيركات على سندات اليوروبوندز 70%. ما يقصده راميريز أن كل النشاط الاقتصادي للبنان على مدى 6 سنوات وربما أكثر، لا يكفي لتغطية هذه الخسائر المحقّقة.

إذاً، فليسمّها ميقاتي وسلامة على «ذوقهم»: إفلاس أو عجز سيولة، أو حتى «قرد طائر» لا يهمّ، فالواضح أنهم يعلكون العبارات من أجل توظيفها في معركة توزيع الخسائر. هذه هي المعركة الفعلية. رفض توصيف «الإفلاس» لا يوحي بأن هذه القيادة تمارس غير الاحتيال. هي تدرك أن المشكلة وقعت واستدعت صندوق النقد الدولي لمعالجتها، لكنها تريد «معالجة» الخسائر على طريقة سلامة السائدة منذ سنتين. وهذا الأمر هو الأكثر استغراباً من قبل ممثل الهيمنة المالية العالمية، راميريز، إذ إنه قالها بصراحة أمام من التقاهم: «لا أموال في النظام المصرفي. أيّ أموال توجد اليوم، يجب أن تُخصّص لحماية صغار المودعين (أقل من 100 ألف دولار)، وودائع الجامعات والمستشفيات وشركات التأمين الصحي وصناديق التعاضد».

أكثر من ذلك، فإن ممثّلي المصارف والتجار واجهوا راميريز بالقول إنهم أودعوا أموالهم لدى مصرف لبنان وهذا الأخير منحها للدولة، وبالتالي على الدولة أن تسهم في إعادة تكوين الودائع من خلال أملاكها الواسعة. لكن إجابة راميريز تشير إلى أن «الدولة لا تقدر أن تشارك بأمر ذي معنى في عملية الإنقاذ. إذا قرّرت الدولة أن تُنشئ صندوقاً سيادياً فلا دخل لنا بهذا الأمر، ولن ننخرط به. في السابق كنّا مع تقليص القطاع العام، لكننا الآن، وخلافاً لموقفنا السابق، مع إعادة تأهيله ليسهم في زيادة الواردات». لكنّ راميريز حذّر من أن لبنان لا يملك ترف الوقت «إلا إذا كنتم غير راغبين في مساعدتنا، وعندئذ سنعود إلى زيارة لبنان في كانون الأول المقبل. يجب أن تعرفوا أن التأجيل من أجل تقليص الخسائر لا يمكن القيام به».

ومن أبرز ما قاله راميريز، بحسب المطّلعين، الآتي: «مهما كان نوع وشكل توزيع الخسائر، ستبقى هناك فجوة بقيمة 20 مليار دولار». ما يعنيه راميريز أنه بعد تصفير رساميل المصارف، وبعد الهيركات على سندات اليوروبوندز، وبعد كل الإجراءات التي يتعارف على القيام بها في مثل هذه الحالات، فإن هناك 20 مليار دولار يجب توزيعها لتنظيف النظام المصرفي.

هنا المسألة الأساسية. هل لدينا عجز في السيولة بقيمة 20 مليار دولار بعد تصفير رساميل المصارف البالغة 17 مليار دولار؟ إذاً، قد تصنّف الدولة في درجة «الإفلاس» الذي لا يصل إلى مرحلة التصفية وتوزيع الحقوق، وإنّما إلى درجة توزيع الخسائر والمفاضلة بين حماية حقوق الغير. من تجب حمايته عند تحقّق الخسائر؟ عملياً، سلامة اتخذ قراره. فالخسائر «قيد المعالجة» يتم تحميلها للمجتمع والاقتصاد بأبشع الطرق عبر تغذية تضخّم الأسعار وتعددية أسعار الصرف، بينما يقولها راميريز بكل صراحة: يجب أن يكون هناك تدقيق معمّق في حسابات البنك المركزي».

من شهر إلى أربعة: «اتفاق الموظفين» يليه «اتفاق نهائي»

قال نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي لـ«الأخبار»، إن هناك تقدماً في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وبحلول مساء الخميس سنعلم إذا تم التوصل مع بعثة الصندوق إلى اتفاق على مستوى الموظفين والمسمّى «staff-level agreement». وأشار إلى أنه «على افتراض أننا اتفقنا مع الوفد المفاوض على الخطّة، فهذا يعني أن الأمر يحتاج إلى الخطوات التنفيذية المسبقة المتفق عليها، تليها موافقة من الجهات العليا لدى الطرفين، أي من المجلس التنفيذي للصندوق، ومن الحكومة اللبنانية لينتقل الملف إلى Final agreement». لكن ما هي الفترة الزمنية الفاصلة بين موافقة الموظفين على الخطّة، وبين موافقة الجهات العليا؟ قد يتطلب الأمر شهراً أو بضعة أشهر. فموظفو الصندوق سيعرضون الملف على رؤسائهم لإعداد كل المؤشرات المتعلقة بالخطة وآليات التنفيذ وعرض كل ما اتفق عليه والبرنامج وسائر التفاصيل. في هذا الوقت، يفترض أن يبدأ لبنان بتنفيذ ما يسمى «الخطوات المسبقة، أو الإجراءات المسبقة التي اتفق عليها مع الصندوق التي ستمهّد لحصوله على الموافقة النهائية». ويقول الشامي: «الفترة القصيرة أفضل. كلما كانت الفترة قصيرة، كان الأمر أوضح من أجل المرحلة التالية، لأنه إذا حصلت تطورات اقتصادية مختلفة قد يفرض الأمر إعادة النظر بالخطة وتعديلها لتتناسب مع الوقائع الجديدة». وبحسب المعلومات، فإن الفترة ما بين موافقة الموظفين، وموافقة الجهات العليا، لا يفترض أن تأخذ أكثر من 4 أشهر كحدّ أقصى، بل يمكن أن تنجز خلال شهر واحد… وهذا يعني أن الاتفاق مع لبنان لن يكون قائماً قبل الانتخابات النيابية. «اتفاق الموظفين» لا يكون نهائياً، وخصوصاً إذا كان لدى البلد انتخابات نيابية تليها انتخابات رئاسية.

مصدرجريدة الأخبار - محمد وهبة
المادة السابقة“الإتفاق المبدئي” مع صندوق النقد إن حصل… تحدٍّ يجب ان تجتازه الحكومة المقبلة
المقالة القادمةإبداع السلطة في قضم الحقوق: «مساعدة اجتماعية» مقابل «غلاء معيشة»