من خيارات «مصرف لبنان».. الى الأمر الواقع!

منذ ارتفاع معدل الدولرة إلى 86% في أعقاب التضخم الجامح عام 1987، صمدت الدولرة في لبنان وانخفضت فقط إلى أقل من 70% بقليل، لترتفع إلى أكثر من 76% اليوم. أما في أحدث الأرقام في نهاية آذار 2021، فقد أصبحت ودائع القطاع الخاص بالعملات الأجنبية الى حدود 109.89 مليارات دولار، وودائع القطاع الخاص بالليرة اللبنانية 49460 مليار ليرة لبنانية (أي ما يوازي 32.81 مليار دولار وفق سعر الصرف الرسمي 1507.5). وبذلك أصبح ما يعادل مجموع الودائع 142.7 مليار دولار أميركي، مقابل 180 مليار دولار قبل اندلاع الأزمة.. وعاد وارتفع معدّل الدولرة الى 80.24%.

وبذلك، يتبيّن تمسّك الاقتصاد اللبناني بمعدّل مرتفع للدولرة، حتى لو بقيت جزئية وغير رسمية، ولو بعد 22 عاماً من «تثبيت» وليس «ثبات» سعر الصرف، نظراً لاستمرار تدخّل المصرف المركزي في سوق القطع حفاظاً على مستوى متشدّد من ضبط سعر العملة ضمن هامش ضيّق 1501-1514 وسعر وسطي 1507.5.. كما أنشأ مصرف لبنان غرفة مقاصّة للشيكات الدولارية، وجعل من الممكن ملء أجهزة الصراف الآلي (ATM) بالعملتين، الليرة اللبنانية والدولار الأميركي، الأمر الذي شكّل عصب الأساس لخطر المضاربة قبيل الأزمة وبداية شح الدولار الورقي.

وقد أدّت الدولرة المرتفعة إلى عدم فعالية أي أداة استقرار قائمة على التحكّم بالكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، وأدّت إلى اعتماد الاستقرار على أساس تثبيت سعر الصرف من خلال التدخّل المستمر لمصرف لبنان في سوق الصرف، مما يتطلب بشكل دائم توفير احتياطات بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان لتأمين هامش تدخّله في سوق الصرف.

ووفق التقرير السنوي عن ترتيبات نظام الصرف وقيود الصرف (2018) تمثل البلدان التي تعتمد تقييد أو ربط سعر الصرف حوالى 42% من مختلف البلدان، تليها البلدان التي تعتمد أطر السياسة النقدية الأخرى (24%)، والبلدان التي تحدّد مستوى التضخم (21%)، وتلك التي تعتمد غيرها من الأهداف النقدية (13%). وتحاول بعض الدول التي تستهدف سعر الصرف التحرّك نحو مزيد من المرونة في سعر الصرف، كما فعلت دول أخرى في السابق، في حين فضّلت بعض البلدان الاستقرار في إطار تثبيت سعر الصرف بشكل مستدام.

ومعلوم أنّ ربط العملة المحلية بسلة من العملات يقلّل من مخاطر الاختلال، على وجه الخصوص عندما يُتوقع حدوث تغييرات كبيرة في العملة الأساسية الواحدة وفق الخيار الذي طرحه نموذج الاقتصادي Williamsson عام 2000 وتمّ بحثه في لبنان عام 2006، دون التمكّن من اعتماده، بهدف حماية لبنان من «التضخّم المستورد» لتقلّب سعر صرف الدولار مقابل سائر عملات البلدان التي تُعتبر شريكاً تجارياً أساسياً للبنان مثل أوروبا…

كل الخيارات الاستباقية للأزمة، من منع التداول بالدولار الورقي عبر الصراف الآلي لضبط المضاربة، أو اعتماد استقرار الليرة إزاء سلة من العملات وتوسيع هامش التدخّل في سوق القطع وفق المؤشرات الماكرو اقتصادية، خصوصاً منها ميزان المدفوعات، لم تعد اليوم تجدي نفعاً. في الوضع الجديد أصبح الانتقال الى نظام سعر الصرف المرن أمراً واقعاً وليس خياراً، واصبح تدخّل المصرف المركزي لضبط الاختلالات الكبرى مرتبطاً بتصحيح الخلل الأساسي، المتمثّل بميزان المدفوعات، الذي لا يرتبط بقرار لمصرف لبنان بل بسياسة إقتصادية إصلاحية شاملة للدولة اللبنانية، تعيد ترميم علاقات لبنان الاقتصادية الخارجية، وتسترجع الثقة لاستقطاب الرساميل والاستثمارات والسياح، لتأمين توازن «فعلي» وليس «اصطناعياً» لليرة اللبنانية إزاء العملات الأجنبية.

مصدرجريدة الجمهورية - د. سهام رزق الله
المادة السابقةتسريبة “المنصّة”: إنطلاقة تزيد السوق إرباكاً
المقالة القادمةالمنصّة انطلقت نظرياً… لكن التداول لم يبدأ