نجاح المسار النفطي رهن ترسيم الحدود مع سوريا وقبرص

مع إنجاز ترسيم الحدود البحريّة جنوبًا، يُقبل لبنان على استحقاقات بتروليّة حسّاسة لا يمكن تأجيل التعامل معها، إذا ما أرادت الدولة الحرص على ثرواتها الطبيعيّة، واستكمال تلزيم البلوكات البحريّة المتبقية. ولعلّ أبرز هذه الاستحقاقات يتمثّل اليوم في استكمال ترسيم حدود المنطقة الاقتصاديّة الخالصة البحريّة الخاصّة بلبنان، مع كل من قبرص غربًا وسوريا شمالاً، خصوصًا أنّ الدولتين منحتا منذ زمن رخص التنقيب والاستكشاف في بلوكاتها المحاذية للمناطق البحريّة المتنازع عليها، ما يُفترض أن يقرع ناقوس الخطر بالنسبة إلى لبنان. وفي الوقت نفسه، من المعلوم أن ثلاثة من البلوكات اللبنانيّة المحاذية للمناطق الحدوديّة غير المرسّمة تمّ عرضها للتلزيم من ضمن دورة التراخيص الثانية، من دون أن تنجح الدولة في تلزيمها لأسباب عديدة، من بينها هذه الخلافات الحدوديّة، وهو ما يفرض اليوم معالجة هذه الإشكاليّة للتمكّن من تلزيم هذه البلوكات واستقطاب الشركات الأجنبيّة إلى هذه الدورة.

لكل هذه الأسباب، لم يكن غريبًا أن يشير رئيس الجمهوريّة إلى ضرورة السير بهذا الملف سريعًا، في خطابه الأخير الذي أعلن خلاله الموافقة على عرض الوسيط الأميركي بالنسبة لترسيم الحدود الجنوبيّة، بعدما تلقّى المسؤولون في وزارة الطاقة إشارات واضحة تدل على ارتباط فشل دورة التراخيص الثانية، وتعثّر تلزيم البلوكات 1 و2 و8، بهذه الخلافات الحدوديّة.

الترسيم النهائي مع قبرص بات ممكنًا اليوم

الخلاف الحدودي مع قبرص، لم يكن أساسًا سوى امتداد لخلاف لبنان الحدودي مع إسرائيل، ما يعني أنّ إنجاز ترسيم الحدود البحريّة الجنوبيّة يُفترض أن يفتح الطريق سريعًا لمعالجة الخلاف مع قبرص.

فلبنان كان قد رسّم بالفعل حدوده الغربيّة مع قبرص سنة 2007، إلا أنّه امتنع لاحقًا عن إبرام المعاهدة في مجلس النوّاب، بعد أن تبيّن أن الترسيم المتفق عليه اقتطع مساحات من منطقته الاقتصاديّة الخالصة لمصلحة إسرائيل جنوبًا. ويومها، ولد الخلاف على خطوط الحدود البحريّة الجنوبيّة بين لبنان وإسرائيل، بين الخط رقم 1، الذي اعتمده ترسيم 2007 بين لبنان وقبرص، والذي تبنّته إسرائيل لاحقًا، والخطوط الأخرى التي جرى التفاوض عليها، ومنها الخط رقم 23 الذي جرى ترسيم الحدود الأخير على أساسه.

وطوال السنوات الماضية، تم تعليق مسألة ترسيم الحدود مع قبرص، بانتظار حسم نقطة الحدود الجنوبيّة بين لبنان وإسرائيل، التي يمكن على أساسها رسم الحدود بين لبنان وقبرص. فمطالبة لبنان بمساحات إضافيّة جنوبًا، فوق تلك التي نصّ عليها ترسيم عام 2007، سيفرض تلقائيًا ترسيم حدود هذه المساحات الإضافيّة غربًا مع قبرص، وهو ما ربط ترسيم الحدود البحريّة اللبنانيّة القبرصيّة بترسيم الحدود البحريّة اللبنانيّة الإسرائيليّة.

ومع تبنّي الخط 23 اليوم، كأساس لرسم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل، بات بإمكان لبنان استكمال رسم حدوده البحريّة مع قبرص. وهذه العمليّة ستحتاج إلى رسم الحدود البحريّة بين الدولتين في المنطقة الممتدة بين الخط رقم 1، الذي انتهت عندها حدود لبنان البحريّة الجنوبيّة في ترسيم 2007، والخط 23، الذي تم تحديده اليوم كخط الحدود الجنوبي.

أهميّة الإسراع في ترسيم الحدود مع قبرص

لكل هذه الأسباب، يمكن القول أنّ النقاط المختلف عليها بين لبنان وقبرص ستتصل فقط بالجزء الجنوبي، الذي شمله الترسيم بين لبنان وإسرائيل، من دون أن يطال باقي أجزاء الحدود البحريّة بين البلدين المتفق عليها عام 2007. وهذا الترسيم الحدودي سيترك أثره على الحدود الغربيّة للبلوك اللبناني رقم 8، الذي تم عرضه للتلزيم في إطار دورة التراخيص الثانية، والذي يقع في أقصى جنوب غربي المياه البحريّة اللبنانيّة. فتلزيم هذا البلوك كان متعذّرًا طوال الفترة الماضية، بسبب تأثر حدوده الجنوبيّة بالخلاف الحدودي مع إسرائيل، وتأثّر حدوده الغربيّة بعدم ترسيم الحدود مع قبرص. وبعد إنجاز الترسيم الحدود البحريّة مع إسرائيل، بات على لبنان استكمال الجزء المرتبط بترسيم حدوده مع قبرص، للتمكّن من تلزيم هذا البلوك.

في جميع الحالات، ثمّة أسباب أخرى تدفع باتجاه الإسراع بترسيم الحدود مع قبرص، غير تلك المتصلة بتلزيم البلوك رقم 8 اللبناني. فمن ناحية الأخرى من الحدود، يحاذي المنطقة غير المتفق على ترسميها البلوك رقم 9 القبرصي، الذي تنشط فيه شركة إيني الإيطاليّة كمشغّل رئيسي في أعمال الاستكشاف والتنقيب. ولهذا السبب تحديدًا، وبما أنّ المناطق المحاذية لهذا الجزء من الحدود تشهد منذ سنوات أعمال التنقيب والاستكشاف لصالح قبرص، بات لزامًا على لبنان الإسراع بترسيم الحدود لضمان حقّه في أي مكامن غاز مشتركة يمكن العثور عليها. مع الإشارة إلى أنّ اهتمام شركة إيني بالاستثمار بهذا البلوك منذ مدّة يمثّل دلالة على احتمالات وجود كميّات تجاريّة من الغاز في هذه المنطقة.

قبل أيّام، استلمت وزارة الخارجيّة والمغتربين كتابًا من وزير الخارجيّة القبرصيّة، يطالب بمباشرة التفاوض لتعديل الحدود البحريّة بين البلدين، في ضوء الاتفاق الحدودي الذي أنجزه لبنان مع إسرائيل. وهذا الكتاب، مثّل أولى الإشارات التي عكست اهتمام الجانب القبرصي بمعالجة هذه المسألة، بعد تذليل أبرز العقبات التي حالت دون ذلك سابقًا، والمتمثّلة بالخلاف الحدودي البحري بين لبنان وإسرائيل. وإذا نجح البلدان في معالجة هذا الملف خلال الفترة المقبلة، سيكون بالإمكان تسريع مسار تلزيم البلوك رقم 8 اللبناني، وتسهيل عمل شركة إيني في المناطق المحاذية للحدود من الجهة القبرصيّة.

الترسيم مع سوريا: المسألة أكثر تعقيدًا

في حالة الخلاف الحدودي اللبناني السوري، يبدو المشهد أكثر تعقيدًا. فخلال السنوات الماضية، رسّم البلدان حدودهما وفق أقصى خط للحدود يمكن اعتماده لكلٍّ منهما، ما أفضى إلى تداخل بمساحة 750 كيلومتر مربّع بين البلوكات 1 و2 اللبنانيّة، والبلوك رقم 1 السوري. ولذلك، تقدّم كل من الطرفين باعتراضات رسميّة على الترسيم المعتمد من قبل الطرف الآخر للحدود، من دون أن ينطلق حتّى اللحظة أي مسار تقني للتفاوض بين الجانبين. ولدى الجانب اللبناني، يمثّل هذا النزاع الحدودي أحد أسباب تعثّر تلزيم البلوكين الحدوديين 1 و2، بعد إدراجهما من ضمن البلوكات المعروضة للتلزيم ضمن دورة الترخيص الثانية.

من جانب سوريا، قام نظام الأسد خلال العام بالماضي بتلزيم البلوك رقم 1 بأسره إلى شركة كابيتال، وهي شركة روسيّة مغمورة في عالم النفط والغاز، تأسست مؤخرًا على عجل، من دون أن تمتلك في سجلّها أي مشاريع أو استثمارات ذات شأن. ومن المرجّح أن تكون هذه الشركة، شأنها شأن الكثير من الشركات الروسيّة العاملة في سوريا، مجرّد واجهة لحلقة الأوليغارشيا الروسيّة المقرّبة من بوتين، الباحثة عن أرباح يمكن جنيها بالاستفادة من النفوذ الروسي في سوريا.

في الوقت الراهن، لا يفترض أن يكون التلزيم الحاصل لمصلحة شركة “كابيتال” مصدر قلق بالنسبة إلى لبنان، إذ أن نشاط هذه الشركة متوقّف في الوقت الراهن نتيجة العقوبات وما خلّفته من ضغوط على قطاع الطاقة الروسي. إلا أن الشركة ستمثّل لاحقًا مصدر لتعقيدات لم تكن في الحسبان، إذا ما تم العثور على أي مكامن مشتركة للغاز أو النفط بين لبنان وسوريا. فمشاركة لبنان في هذا النوع من الحقول، تحت إدارة الشركة الروسيّة كشريك مشغّل لصالح سوريا، قد يعرّضه للعقوبات الغربيّة، بسبب الحظر المفروض على الشركات الروسيّة. أمّا عمل الشركات الغربيّة في حقول مشتركة من هذا النوع لصالح لبنان، وبمشاركة سوريا (كما فعلت توتال بالنسبة لحقل قانا مع إسرائيل)، فسيكون متعذّرًا نتيجة العقوبات المفروضة على سوريا. إلا أن جميع هذه السيناريوهات، ستظل رهن نتائج التنقيب في هذه المنطقة، وهو ما لم يُنجز بعد.

في النتيجة، يبدو من الواضح أن المسؤولين اللبنانيين أدركوا مؤخرًا أهميّة تحريك ملف ترسيم الحدود الشماليّة والغربيّة مع سوريا وقبرص، وخصوصًا لاتصال هذا الملف باحتمالات نجاح دورة الترخيص الثانية. كما يبدو من الواضح أن الجانب القبرصي يأخذ بالاعتبار أهميّة إنجاز هذا الملف لإنجاح عمل شركة إيني في المساحات البحريّة الحدوديّة لديه، وهو ما يرجّح سهولة إطلاق مسار الترسيم مع قبرص. إلا أنّ ترسيم الحدود مع سوريا سيظل محاطًا بإشكاليّات تعيق تقدّمه، وخصوصًا أن التفاهم على ترسيم الحدود يقتضي الاتفاق أيضًا على كيفيّة التعامل مع أي مكامن مشتركة قد يتم اكتشافها.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةلينكولن نافيغيتور توفر تجربة قيادة فريدة في الشرق الأوسط
المقالة القادمةصيدليات تسعّر الدواء بالدولار الفريش.. والوزارة “نائمة”