نصري دياب: التسديد أو التفاوض أو… “ساعة الحساب”

في تقريرها الأخير الصادر منذ أيام، أشارت وكالة التصنيف العالمية FITCH إلى أنّ صافي موجودات مصرف لبنان بالدولار باتت سلبيّة. عملياً، يُشير ذلك إلى أن البنك المركزي لا يمكنه أن يسدّد أي مستحقات إن لم يستخدم أموالاً ليست له.
“إذا كانت الأرقام في الاقتصاد قابلة للنقاش والاختلاف، ما قد يُفسّر التناقضات في الآراء حول وجوب سداد مستحقات اليوروبوندز أم لا، فإنّ القانون واضح وصريح وهو لا يقبل التأويل”، كما يقول البروفسور المحامي نصري دياب في حديث إلى “نداء الوطن”، خصوصاً وأنّ “إصدارات اليوروبوندز كناية عن عقد متعدّد الأطراف. فإما يتم تعديله بموافقة كل الأطراف (وفق شروط الأغلبية المحدّدة فيه)، وإلا يكون لبنان متخلّفاً عن السداد وبالتالي عرضة للمحاسبة القانونية والتنفيذ دولياً”. باختصار، إن لم يُسدّد لبنان ما يتوجّب عليه، بقرار أحاديّ، فإنّ أصول الدولة في الخارج عرضة للخطر.

بالنسبة الى دياب، إن “من المتاح لدولة الامتناع عن التسديد، لكن اتخاذ قرار أحاديّ في مسألة كهذه من دون التفاوض والتنسيق مع الدائنين يقضي على سمعة لبنان ويعدم أي فرصة مستقبلية بالحصول على التمويل والمساعدات، والتي يحتاجها لبنان في ظلّ الظروف الراهنة. وذلك، بالاضافة الى التأثير السلبي على التجارة الخارجية وإمكانية التصدير والاستيراد والتواصل مع المصارف الأجنبية وفتح أسواق جديدة وتفعيل الاقتصاد والنمو”.

* بين خيار تسديد مستحقات الـيوروبوندز “Eurobonds” أو عدمه، ما هو الحلّ الأنسب للبنان؟

ـ إن الحديث الجدّي عن سداد الـEurobonds او التخلف عن السداد لا يزال حتى الساعة غير ممكن من دون التطرق الى نقطتين اساسيتين:

الأولى، ضرورة الحصول على معلومات رقمية واضحة ومفصّلة من مصرف لبنان ومن وزير المالية (اذ يجب التذكير بان وزارة المال معنيّة مباشرة وعضوياً في عمل ومراقبة حسابات مصرف لبنان عملاً باحكام قانون النقد والتسليف). فحتى الآن لا صورة واضحة لدينا حيال موجوداتنا القابلة للاستعمال. فكيف يمكن اتخاذ قرار مالي بهذا الحجم من دون ارقام واضحة، يجب التذكير هنا بآخر تقرير لوكالة التصنيف Fitch في ما يخص موجودات مصرف لبنان بالعملات الاجنبية.

والثانية، لا يمكن اتخاذ اي إجراء أحادي الجانب حول إعادة الهيكلة من دون موافقة الدائنين، وإلا اعتبر ذلك تقصيراً عن السداد، وبالتالي إفلاساً. لجهة العبارات المستعملة، فإن إعادة الهيكلة (Restructuring) هي أوسع من إعادة التقسيط (Rescheduling)، اذ ان الاولى قد تتضمن الثانية بالاضافة الى إجراءات أخرى.

صلح… إحتياطي

* كيف تصف وضع لبنان القانوني؟

ـ نحن الآن في مرحلة ما قبل التوقف عن الدفع، وعلينا التشاور مع الدائنين للاتفاق معهم حول اي إعادة هيكلة محتملة لليوروبوندز. فاذا شبّهنا الامر بما هو معمول به في القانون الداخلي، يتوجب علينا دعوة الدائنين لمحاولة التوصل الى صلح احتياطي (Concordat) قبل ولوج الطريق الى الافلاس.

ان المفاوضات مع الدائنين تكون مباشرة، اي انه لا توجد سلطة عليا مخوّلة إدارة هذه المفاوضات. وهنا لا بد من الاشارة الى ان دور صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في هذا الخصوص يقتصر على إعطاء المشورة للبنان وابداء النصيحة.

* هل يمكن لشركة “أشمور” (ASHMORE ) أن تعطّل قرار الغالبية لناحية إعادة الهيكلة؟

ـ تكمن المعضلة في بند (Collective Action Clause (CAC، وهو البند الذي يسمح لغالبية معينة من حاملي سندات اليوروبوندز بالتصويت على تعديل شروط الاصدار، وبالتالي إعادة هيكلة دين الدولة، بالرغم من معارضة الاقلية. في هذا الاطار، من المستغرب أنّ بعض المعنيين كانوا يؤكدون على ان الاصدارات لا تتضمّن (CAC)، في حين ان العكس صحيح كما جاء الاثبات لاذعاً على يد شركة ASHMORE وضد مصلحة لبنان، بحيث ان ASHMORE استحوذت على 25% زائد بعض السندات من تلك التي تستحق في آذار ونيسان وحزيران 2020، ما يسمح لها بتعطيل غالبية الـ75% التي حددها (CAC). والاخطر هو ان نسبة 25% من حاملي السندات يمكنها اعلان حالة التخلّف (Event of Default) في حال عدم السداد، وجعل جعل كلّ السندات المرتبطة مستحقة فوراً. فمن يملك 25% من السندات يمتلك مفتاح المفاوضات ومفتاح الافلاس. إنّ ASHMORE شركة كبيرة متخصّصة في الأسواق الناشئة وتتخطّى الموجودات التي تديرها (Assets Under Management) الـ73 مليار دولار. من هنا يصعب تخيّلها كشريك في “صفقات مشبوهة”. وللتذكير فإنّ سندات اليوروبوندز اللبنانية متداولة في بورصة Luxembourg.

“التنفيذ”… في الخارج

* في حال امتنع لبنان عن الإيفاء بمستحقاته، من هي الجهة التي تبتّ بالنزاع؟

ـ ان عقود الاصدار تتضمن بند اختصاص قضائي لصالح محاكم نيويورك وبند اختيار قانون ولاية نيويورك. وفي حال لجأ احد الدائنين الى القضاء الاميركي واستحصل على حكم لصالحه، فان تنفيذ هذا الحكم لا يمكن ان يتم في لبنان اذ ان املاك الدولة الموجودة على الاراضي اللبنانية غير قابلة للحجز، بل ان التنفيذ سوف يتم خارج لبنان.

* هل تعتبر أصول الدولة اللبنانية وممتلكاتها في الخارج معرّضة للخطر في حال أي نزاع قضائي مع الدائنين؟

ـ في القانون الدولي العام، تتمتع الدول بحصانتين اثنتين:

الأولى، حصانة المقاضاة (Immunité de juridiction)، اي حصانة ضد الادعاء عليها امام القضاء. في عقود الاصدار، تنازلت الدولة اللبنانية عن هذه الحصانة، بقبولها في حال نشوء خلاف مع احد الدائنين، بأن تبتّ محاكم نيويورك بالنزاع.

والثانية، حصانة التنفيذ (Immunité d’exécution). ان التنازل عن حصانة المقاضاة لا يستتبع حكماً التنازل عن حصانة التنفيذ، بحيث ان التنازل يجب ان يكون صريحاً. وبالفعل، فان لبنان قد تنازل في عقود الاصدار صراحة وبالتفصيل عن حصانة التنفيذ. ففي أحد بنود عقود الاصدار، تنازل لبنان بشكل غير قابل للرجوع عنه عن حصانة التنفيذ، وذلك في ما خص كل ممتلكاته باستثناء تلك التي تتعلق مباشرة بسيادته والتي يستخدمها لأغراض رسمية (Official Purposes) اي السفارات والقنصليات، ما يعني ان ممتلكاته في الخارج قابلة للحجز والتنفيذ.

لبنان “نموذج” فريد

* دول عدة توقفت عن السداد، لماذا لا يكون لبنان واحداً منها؟

ـ يجب أخذ كلّ حالة على حدة والتدقيق فيها، فلا وجود لنموذج واحد. لا يمكن تشبيه حالة لبنان بأوضاع دول امتنعت عن تسديد مستحقاتها الدولية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يعتبر اليونان بلداً أوروبياً وهو يعتمد اليورو كعملة وطنية وبالتالي يستفيد من كلّ مساندة من البنك المركزي الاوروبي كما من الاتحاد الاوروبي. أما بالنسبة الى الأرجنتين، فإنّ اقتصادها كان واحداً من أكبر الاقتصادات في العالم. اضافة الى ذلك، الارجنتين في حالة اعادة هيكلة وتخلّف منذ قرابة عقدين من الزمن، وخلال تلك الفترة، قامت بتعديل بنود إصداراتها لجهة العملة والمحاكم المختصّة والقانون الواجب تطبيقه على مراحل. كما استفادت من قروض متعدّدة من صندوق النقد الدولي. وبالحديث عن الأرجنتين، يجب استذكار كيف عانت من حجز أملاكها وأصولها عندما تقاعست عن الدفع من قبل الصناديق الانتهازية (Vulture Funds). لكلّ هذه الأسباب، فإن تشبيه وضع الأرجنتين بحالة لبنان ليس مجدياً، وحريّ بنا محاولة إيجاد حلول لهذه المعضلة الوطنية بالنظر الى إمكانياتنا ونصوص إصداراتنا.

عندما يدخل بلد ما في نفق الإفلاس وإعادة الهيكلة، يصعب عليه الخروج منه في مهلة قصيرة أو حتى متوسطة، فعندها نتحدث عن جيل ضائع (Lost Generation).

مصدرايفون أنور صعيبي - "نداء الوطن"
المادة السابقةالـ”Haircut” المطلوب لا يقلّ عن 50 بالمئة
المقالة القادمةعقود الذّهب تقفز 0.94 % إلى 1635.7 دولاراً للأوقية