هل تحقق تركيا أي نجاح لإصلاح الاقتصاد؟

يراقب المحللون باهتمام منذ بداية 2022 التأثيرات العميقة لبرنامج الإصلاح التركي المثير للجدل لتعديل المؤشرات السلبية، والذي قد يدفع بالاقتصاد نحو طريق مسدود ستكون تداعياته كارثية على المدى البعيد، بينما يتكشف شيئا فشيئا حجم الفقاعة التي ولدتها الطموحات المالية والنقدية للرئيس رجب طيب أردوغان.

اتخذت الحكومة التركية والبنك المركزي خطوات غير تقليدية في الأسابيع الأخيرة لدعم الاقتصاد المشلول بسبب ارتفاع أسعار المستهلكين، بدلا من إنهاء خطة انتقدت بشدة لخفض أسعار الفائدة. وأدى إصرار الرئيس رجب طيب أردوغان على خفض أسعار الفائدة، على عكس ما يقول الاقتصاديون إنه يجب فعله للحد من التضخم المرتفع، إلى إضعاف عملة البلاد ودفع الأسعار إلى الارتفاع، مما صعّب على المواطنين شراء المواد الأساسية مثل الطعام.

ويتفق الكثير من المحللين والخبراء على أن السياسات الاقتصادية التي يتبناها أردوغان تنطوي على العديد من المخاطر على المدى الطويل مما قد يُصعب في المستقبل إصلاح أي ضرر أكبر مما هو عليه اليوم. وضغط أردوغان، الذي أصبح سلطويا بشكل متزايد وأعلن نفسه منذ فترة طويلة عدوا لارتفاع تكاليف الاقتراض، على البنك المركزي لخفض أسعار الفائدة باستمرار على الرغم من ارتفاع التضخم بنسبة 36 في المئة الشهر الماضي.

وبالمقارنة، حقق التضخم في 19 دولة تستخدم اليورو قفزة قياسية بنسبة 5 في المئة عن العام السابق، وسجلت الولايات المتحدة أعلى مستوى لها منذ أربعة عقود عند 7 في المئة. ويدعو التفكير الاقتصادي التقليدي إلى زيادة تكاليف الاقتراض لتخفيف التضخم، كما فعلت الدول الأخرى، لكن أردوغان يؤكد أن الأمر عكس ذلك.

وكان الرئيس التركي قد أقال ثلاثة محافظين للبنك المركزي منذ العام 2019 بسبب الاختلافات في أسعار الفائدة، كما استشهد بالتعاليم الإسلامية التي تعتبر الربا حراما. وتكافح الحكومة لقلب المؤشرات السلبية وفي مقدمتها معدل التضخم، لكنها في كل مرة تتعرض إلى خيبة أمل تمتد آثارها إلى حياة الأتراك وأيضا إلى المستثمرين سواء كانوا محليين أو أجانب وتتجلى بوضوح مع تراجع قيمة الليرة.

فقد أدت السياسة غير التقليدية التي يتبعها أردوغان إلى هروب المستثمرين الأجانب من البلاد، بينما كان المواطنون الأتراك يحاولون حماية مدخراتهم من ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة العملة عن طريق تحويلها إلى أموال أجنبية أو ذهب. وسجلت الليرة التركية مستويات منخفضة قياسية متتالية في شهري نوفمبر وديسمبر الماضيين. وفقدت حوالي 45 في المئة من قيمتها مقابل الدولار العام الماضي.

ومع ارتفاع الأسعار أصبحت حتى السلع الأساسية بعيدة عن متناول العديد من الأتراك. وأثناء ذلك تشكك أحزاب المعارضة في الرقم الرسمي للتضخم بينما تقول مراكز أبحاث مستقلة إن الرقم الحقيقي يصل إلى نسبة 82 في المئة. وقال علي باباجان، نائب رئيس الوزراء السابق في عهد أردوغان والذي كان يُعتبر “قيصر الاقتصاد” بتوليه حقيبة المالية في يوما ما، إن “كل من يذهب إلى السوق يعرف أن نسبة التضخم البالغة 36 في المئة غير صحيحة”. وأضاف باباجان، الذي شكل حزب الديمقراطية والتقدم بعد انشقاقه عن حزب العدالة والتنمية الحاكم، “يدفع الناس ثمنا باهظا (لسياسات أردوغان) في شكل معاناة وفقر”.

وفي مواجهة انخفاض سريع للعملة أعلن أردوغان الشهر الماضي عن برنامج يهدف إلى التشجيع على تحويل العملات الأجنبية إلى الليرة مع الحفاظ على المدخرات بالأموال التركية. وبموجب نظام “الودائع المحمية بسعر الصرف” تضمن الحكومة أنها ستغطي الخسائر إذا كانت الفائدة التي يحصل عليها المودعون عند استحقاق الحساب أقل مما كانوا سيحصلون عليه من خلال الاحتفاظ بالمدخرات بالعملة الأجنبية. وارتفع سعر صرف الليرة، التي كانت قد انخفضت إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق عند 18 مقابل الدولار، مؤقتا خلال الفترة الماضية ليصل سعر صرف العملة الأميركية إلى 11 ليرة. ويعاني سوق العملات الأجنبية التركي للعام التاسع على التوالي من انخفاض مستواه، بعد أن خسر أكثر من 80 في المئة من قيمته، وتعد الليرة الأسوأ في الأسواق الناشئة بعد عملة البيزو الأرجنتينية.

ووسّعت الحكومة البرنامج ليشمل حسابات الشركات منذ ذلك الحين. وقال البنك المركزي إنه سيُطلب من المصدرين تحويل 25 في المئة من عائداتهم من العملات الأجنبية إلى الليرات. وزادت الحكومة مساهماتها في خطط التقاعد الخاصة.كما قالت إنها رفعت الحد الأدنى للأجور بنسبة 50 في المئة. لكنها في الوقت نفسه رفعت أسعار الغاز والكهرباء بنسبة 50 في المئة للأسر ذات الاستهلاك المنخفض وبنسبة 125 في المئة لمن هم أكثر استهلاكا.ويؤكد أردوغان أن نظام الإيداع بالليرة ناجح. ونقلت وكالة الأناضول الحكومية عنه قوله هذا الأسبوع “نحن سعداء بانخفاض تقلب أسعار الصرف واستمرار الاستقرار”.

ويقول وزير الخزانة والمالية نورالدين نبطي إن المواطنين أودعوا 131 مليار ليرة (9.67 مليار دولار) في مثل هذه الحسابات حتى الآن. ويصر باباجان على أن المستثمرين الأتراك يحتفظون بعملاتهم الأجنبية وتقتصر تحويلاتهم على ودائع بالليرة في إطار البرنامج. وقال على قناة فوكس تي.في التركية إنه “لا يوجد حافز لمن لديهم عملات أجنبية لتبديلها (بليرات)”. ويؤكد باباجان وكثيرون آخرون أن الارتفاع المذهل لليرة الشهر الماضي لم يكن بسبب برنامج الحكومة، وإنما بسبب بيع البنك المركزي لمليارات الدولارات من احتياطياته المتضائلة لدعم العملة المحليّة.

وقال باباجان “عندما ألقينا نظرة رأينا ذلك في تلك الليلة، وفي الأيام القليلة التالية، باع البنك المركزي الدولارات بشراسة عبر الباب الخلفي. وفي ديسمبر الماضي باع البنك المركزي 17 مليار دولار. وجرى بيع 9 مليارات دولار من خلال تدابير سرية”. ورفض نبطي المزاعم. وقال “تدخل آلاف البائعين الأفراد. لقد تنافسوا مع بعضهم البعض وتسابق الناس على تبادل عملتهم”.

وحتى الآن فقدت الليرة بعض مكاسبها التي حققتها قبل أسبوعين، وتراجعت إلى حوالي 13.5 ليرة للدولار الأربعاء الماضي مما يعطي مؤشرا أوليا على عدم جدوى برنامج الإصلاح.ومع أن نظام الإيداع وفر فترة راحة لأردوغان، حيث أنهى التقلب المفرط في الليرة على الرغم من أن التحول إلى الحسابات المحمية بسعر الصرف محدود، يخشى المحللون أن يؤدي البرنامج إلى ظهور مشاكل اقتصادية إضافية طويلة الأجل.

ويقولون إنه في حالة انخفاض الليرة مرة أخرى سيتعين على الخزانة التركية أن تتحمل فاتورة خسائر أسعار الصرف وزيادة التضخم، مما يعني إثقال كاهل الحكومة ماليا.وقال باباجان إن “حقيقة أن هذه الودائع مرتبطة بعملة أجنبية تضع البنك المركزي والخزانة تحت عبء لا يمكن قياسه”. وتوافقه الخبيرة الاقتصادية أوزليم ديريسي سينغول. وقالت “إذا رأينا انخفاضا في قيمة العملة، فسيتعين على الخزانة دفع الفرق بين عائد الودائع والاستهلاك. وسيضع ذلك عبئا إضافيا على المالية العامة”.

كما يشير الخبراء إلى أن الحكومة لم تضع خطة للسيطرة على التضخم. وتابعت سينغول، وهي الشريكة المؤسسة لشركة سبين للاستشارات ومقرها إسطنبول، إن “التضخم هو الخطر الحقيقي، بالطبع. ومن غير المرجح أن تختفي الضغوط التضخمية بسهولة ما لم تُتبع سياسة نقدية صارمة للغاية”.

ويصر أردوغان على أن سياساته تحارب الأسعار المرتفعة. وقال في آخر تصريح له “في حقيقة الأمر النتيجة تظهر نفسها؛ بدأ التضخم في التراجع وسيواصل التراجع”.

 

مصدرالعرب اللندنية
المادة السابقة“عملاق” جديد من تويوتا يتحدى مركبات Land Cruiser
المقالة القادمةلبنان يبدأ خطوة في رحلة شاقة لإصلاح فوضى الإنفاق العام