هل يمكن تحييد سوق الصرف عن تداعيات الأزمة؟

ما الذي يمكن فعله أثناء مرورنا الطويل في نفق هذه المرحلة الفوضوية من الأزمة؟
لا يتعامل هذا السؤال بطبيعة الحال مع تحديات الحلّ الطويل الأمد، الذي يعني في الاقتصاد السياسي تحديد الوجهة النهائية لتوزيع الخسائر المتراكمة ومعها المسؤوليات عنها، وفي الاقتصاد الكلّي وضع خريطة طريق لاقتصاد يحقق توازن الحسابات الخارجية للدولة ويحمي العملة الوطنية بالمنافسة والإنتاج، وفي الاقتصاد الاجتماعي الانتقال من نظام المساعدة الاجتماعية التوزيعي والمؤقت بطبيعته إلى الحماية الاجتماعية المعزّزة بنموّ منصف وتغطية صحية شاملة ومؤسّسات تعليم عامة ذات جودة عالية. لكنه، يعني في الاقتصاد النقدي إحياء السياسة النقدية التي تعطّلت أهم أدواتها بسبب توقّف المصارف عن الدفع وشلل قطاع الوساطة المالية. فالسلطة النقدية التي يقع على عاتقها بالدرجة الأولى إدارة السيولة العامة في الاقتصاد وضبطها والتأثير على معدلات الفائدة، فقدت الوسائل اللازمة لفعل ذلك مثل التحكّم بنسب الاحتياط الإلزامي (التي لا قيمة لها مع تلاشي الودائع)، أو تغيير معدلات الحسم (التي فقدت تأثيرها مع جمود النشاط المصرفي)، أو عمليات السوق المفتوحة (بعد انهيار الثقة بإصدارات الدولة من سندات الخزينة).

وللتذكير، فإن الفرق الجوهري بين أزمة الليرة اللبنانية في ثمانينات القرن الماضي وأزمتها اليوم، يكمن في حجم الخسائر الهائل التي أصابت القطاع المالي، والتي يُراد إطفاؤها من خلال طباعة النقود، فيما كان الغرض من هذه العملية في الأزمة السابقة هو تمويل القطاع العام الذي انعدمت مداخيله أثناء الحرب.

بناء عليه، حالياً تتحكّم أربعة عوامل، على نحو متفاوت، باستقرار سوق الصرف وتوازنها؛
– أكبرها على الإطلاق خسائر القطاع المالي. ففي كل يوم تُستبدل قيم حقيقية «مندثرة» لودائع بالدولار الأميركي بقيم «وهمية» بالليرة اللبنانية، وتُضخّ من أجل ذلك عشرات مليارات الليرات على شكل سحوبات نقدية من حسابات بالعملة الصعبة.

– العامل الثاني في التأثير على توازن سوق الصرف، هو عجز الخزينة العامة، الذي لم يتدنَّ رغم ظروف الأزمة عن 5500 مليار ليرة في عام 2020، بل يتوقع أن يصل إلى 6200 مليار ليرة وفق تقديرات مسوّدة موازنة 2021.

– يأتي ثالثاً في عداد العوامل المؤثّرة على السوق، عجز الحساب الخارجي. ففي وقت تتسع فيه الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، ينكمش حجم المعروض من العملات الأجنبية بفعل الخلل المزمن في الموازين الخارجية.

– أما العامل الرابع الذي يمارس ضغطاً إضافيّاً على السوق، فيرتبط بعوامل طارئة؛ مثل لجوء المصارف عن غير حق إلى السوق المحلية لتأمين متطلبات التعميم 154، وتوقف مصرف لبنان عن تزويد الصرافين بالدولارات عبر المنصّة منذ أسابيع، وأعمال المضاربة التي يقف وراءها بعض كبار المتعاملين في السوق، والتوقّعات السلبيّة المتّصلة باحتمال رفع الدعم أو ترشيده، ناهيك عن التوتر الداخلي الذي يجري استغلاله وتصعيده لأغراض سياسية معروفة.

إذا كان الهدف هو السيطرة على تقلّبات سعر الصرف، فهذا يقتضي التعامل مع هذه العوامل مجتمعة، وتدخلاً يومياً محسوباً من قبل مصرف لبنان، وزيادة شفافية سوق القطع وتمكين المؤسّسات النظاميّة العاملة فيه من العمل وفق القوانين المرعية الإجراء.

وحتى ننجح في امتصاص الأثر اللاتوازني لتسييل الحسابات بالعملة الصعبة على شكل ليرات لبنانية، فإنّ علينا تغيير الآلية المعمول بها حاليّاً، فيحصل المودعون مجدداً على جزء من سحوباتهم بالدولار الأميركي ضمن سقوف محددة. وهذا ما يمكن أن يأتي في إطار إجراء مزدوج ينال بموجبه المودعون ما لا يقل عن 30% من سحوباتهم النقديّة بالدولار الأميركي. على أن يلتزم مصرف لبنان بتغطية ما يوازي الاحتياط الإلزامي (15%) من قيمة هذه السحوبات، فيما تتولى المصارف تسديد نسبة مساوية (مع إمكانية زيادتها تدريجياً)، شرط أن يتحقّق ذلك بأموال طازجة آتية من الخارج ومن ضمنها المؤونات المطلوبة بموجب تعاميم مصرف لبنان.
بتطبيق هذه الآلية، تستأنف المصارف تسديد جزء من مطلوباتها بالدولار، وتجري المحافظة في الوقت نفسه على ما يعدّه المصرف المركزي احتياطيّاً إلزاميّاً.

وللغرض نفسه، يجب خفض عجز الخزينة والموازنة العامة إلى أدنى حدٍّ ممكن، مع التركيز على تقليص النفقات التي تستلزم ضخّاً نقديّاً في السوق، وزيادة الإيرادات التي تمتصّ السيولة. وفي واقع الحال يمكن تحقيق التوازن بين جانبَي الواردات والنفقات في الموازنة العامة، ومحو العجز (الذي تقدّره مسودة مشروع موازنة 2021 بنحو 4687 مليار ليرة عدا سلفة الخزينة لمؤسسة كهرباء لبنان) من خلال بضعة إجراءات «واقعية»، أبرزها شطب كامل الفوائد على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية والبالغة حسب المشروع المذكور نحو 3 آلاف مليار ليرة، واحتساب الضريبة على فوائد شهادات الإيداع وودائع المصارف في مصرف لبنان بالعملات الأجنبية بسعر صرف المنصة. ولا بدّ أيضاً من التحسّب استباقيّاً للمتطلّبات الماليّة الناتجة من توسيع برنامج دعم الأسر الأكثر فقراً، بزيادة واردات الخزينة لاستيعاب هذا البرنامج من جهة، والبحث من جهة أخرى عن تغطية له بالعملات الأجنبية، سواء من المساعدات الخارجية، أو عبر ما يمكن تسميته بـ«التمويل السلبي» الذي يعني خفض الإنفاق الكلّي بالعملات الصعبة في مجالات محدّدة.

هنا نصل إلى نقطة مركزيّة في النقاش بشأن ضبط سوق الصرف والتحكم بعوامل العرض والطلب فيها، والتي تتمثل في الرقابة المباشرة والصارمة على حركة التجارة الخارجية وحسابات العالم الخارجي، وهذا ما لا يمكن تركه للآليات التقليدية والعادية في ظل الفوضى الانتقالية الراهنة.

بيد أنّ الإجراءات المطروحة أعلاه ليست سوى محاولة انتقالية لتنظيم الفراغ والحدّ من مخاطره وتخفيف أعبائه، كما أنها ذات صلاحية زمنية محددة، وقد لا تصمد أمام احتمالات الانهيار الذي بدأنا نشهد على ما يبدو موجته الثاني، إذ لا حلّ حقيقيّاً من دون إجراءات جديّة وسريعة للإنقاذ، تقوم بها سلطة أُعيد تكوينها أو إصلاحها أو تفعيلها، أو حتى من خلال ما تيسّر من مؤسّسات ما زالت قادرة على السير ولو على قدم واحدة.

مصدرجريدة الأخبار - عبد الحليم فضل الله
المادة السابقة«المنصّة» أداة لشراء الوقت
المقالة القادمةالتقرير الثاني للبحوث العلمية حول التلوث النفطي على الشواطئ اللبنانية