وداعا سانيو وشارب.. مدن يابانية تحتضر مع اختفاء علامات تجارية

تحتضن مدينة صغيرة واقعة غرب اليابان حوالي ستة آلاف ورشة عمل صغيرة تشغّل 87 في المئة منها أقل من 20 موظفا، وتعتبر رمزا لكيفية دفع المصنعين اليابانيين الصغار نحو نقطة تحول.

تقليديا صنعت هذه الورش مكونات تُستعمل في صناعات كبرى كمقاعد القطارات وأقلام الحبر، واعتمدت منذ البداية على شركات عملاقة مثل شارب وباناسونيك وسانيو لتسويق منتجاتها.

اليوم اختفت سانيو بعد أن استحوذت عليها باناسونيك. وشحّ العمل بشكل عام في السنوات الأخيرة في مواجهة المنافسة مع كوريا الجنوبية والصين. ونقلت شركة فوكسكون التايوانية، مع استحواذها على شارب عام 2016، معظم أنشطتها إلى خارج اليابان.

وتعكس مجموعة المتاعب التي تواجهها مدينة هيغاشيساكا شيخوخة السكان ورحيل الكفاءات والصناعات إلى الخارج، ويضاف إلى ذلك تراجع العملة، وهي مشاكل أثرت سلبا على الأسس الصلبة لثالث أكبر اقتصاد في العالم.

وتحوّل أحد المصانع في المدينة، وهو مصنع مكونات الطائرات أوكي، إلى صناعة المواد الغذائية بعد أن تضرر بشدة من الوباء. واضطرت شركة أخرى، وهي شركة كاتسوي كوغيو لتصنيع الحفارات الهوائية، إلى رفع أسعارها لأول مرة منذ أن بدأت العمل عام 1967.

خفضت شركة سييكو أس سي أم إنتاجها وتسعى إلى إحياء الأنشطة الصناعية في المدينة من خلال تحويل جزء من مقرها الرئيسي إلى حظيرة عمل مشتركة. وقالت هيروكو كوسابا، رئيسة الشركة التنفيذية، إن “الأمر أشبه بكونك ضفدعا في وسط ماء يسخن ببطء. اعتقدنا جميعا أن العلامات التجارية الكبرى ستحمينا دائما، ولكن هذا تغيّر الآن”.

خلال الأشهر الستة الماضية تراجعت قيمة الين الياباني من حوالي 115 ين للدولار في أوائل مارس إلى أكثر من 130 ين في أغسطس. كما يتواصل تأثير كوفيد – 19، وتعاني 67 في المئة من الورش الصغيرة في المدينة من الوباء، وفقا لمسح أجرته غرفة التجارة.

لكن الصعوبات الاقتصادية الأشد بالنسبة إلى هذه الورش لا تتعلق بالبقاء فقط، بل أيضا بالحفاظ على التقاليد الصناعية الأسرية. وتمثل الشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم 99.7 في المئة من المؤسسات و68.8 في المئة من العمالة في اليابان. لكن هذه الشركات نفسها لا تمثل سوى 52.9 في المئة من الاقتصاد، وفقا لمسح حكومي سنة 2016.

وللمنطقة المحيطة بالمدينة تاريخ حافل كمركز صناعي يمتد على مئات السنين. ولا تزال المدينة تضم جيوبا صناعية، حيث تنحشر المصانع الصغيرة بين المنازل وينشط فيها العمل من الصباح الباكر حتى الغسق.

وقال هيروتومي كوجيما، الرئيس التنفيذي لشركة معدات الحفر الهوائي كانسوي كوغيو، إن بيئة الإنتاج هذه أدت إلى ظهور روابط بشرية وإحساس بالانتماء إلى المجتمع. ويوفر ذلك شبكة دعم مهمة، لكن تترتب عليه تكاليف أعلى أيضا.

متاعب بالجملة

ورفع كوجيما الأسعار في أكتوبر. وارتفعت تكاليف المواد منذ ذلك الحين، لكنه يتردد الآن في رفع الأسعار مرة أخرى خوفا من أن يخسر زبائنه القدامى. وعلق قائلا “كلما اقتربت أكثر من الزبون، صعبت عملية المساومة على الأسعار”.

ويبحث كوجيما عن زبائن جدد لأول مرة خلال عشر سنوات من عمله رئيسا تنفيذيا للشركة، وهو محتار بين الحفاظ على العلاقات مع الزبائن أو الإضرار بشركته.

وغالبا ما يزوره هيرونوبو يابوموتو، وهو صديق مقرب يدير ورشة أخرى لمعدات الحفر. ورغم أنهما في منافسة مباشرة، إلا أنهما يتقاسمان بعض الصفقات ويتشاركان الزبائن أحيانا. وقال يابوموتو “نريد أن نبقي على هذه الصناعات الصغيرة وهذه الثقافة”.

وشهد كل من كوسابا وكوجيما خلال العقد الماضي إغلاق ورشة واحدة على الأقل كل عام، بوفاة المالك المسن أو مرضه، لتغلق الورشة بسبب عدم وجود ورثة يتابعون إدارتها.

وتبدو الورش الباقية متماسكة معا. وقالت كوسابا، وهي ليست من المدينة، “إن السكان المحليين مثل الخباز وبائع الأرز يربطونها بمجتمع أوساكا المتميز”.

وتابعت كوسابا “سمعت قصصا كثيرة عن تدهور الأعمال، وكيف كان لدى الورش في السابق الكثير من الزبائن في وقت شهد ازدهار التصنيع، وكيف تغيرت الأوقات كثيرا”.

وهذا ما دفعها إلى تغيير نوعية أنشطتها لحماية أرباحها النهائية ومساعدة الورش المصنعة في المدينة. كما أنها تعمل على إنشاء مساحة للعمل المشترك وفتح “مصنع مشترك”، حيث يمكن للمستخدمين دفع الأموال مقابل الوصول إلى الآلات والموارد التي من شأنها خفض التكاليف الثابتة وزيادة الإنتاج.

وقالت إن “العلامات التجارية والشركات المصنعة الكبرى تخلت عنا. نحن بحاجة الآن إلى التواصل مع المستهلك مباشرة. لا نستطيع سوى الاعتماد على أنفسنا”.

ويعني قرارها أنه سيكون هناك المزيد من العمل لمنافسيها، لكن كوسابا قالت إنها تفضل القيام بذلك بدلا من مشاهدة الصناعة بأكملها تنهار. وقالت “ليست المنافسة سبيلا للبقاء. علينا أن نوحد قوانا بدلا من ذلك”.

وتحاول أوكي، التي وُصفت خدماتها بأنها “غير أساسية” أثناء الوباء، تجنب الانجرار وراء صناعة الطيران التي دمرها كوفيد – 19. وعلّق الرئيس التنفيذي أوسامو أوكي آماله على مجال مختلف؛ صناعة الأغذية. وهو يصمم آلة تعالج اللحوم في مصنع أوكي حيث يضيف العمال إليها بعض اللمسات.

تقاليد التصنيع

ورغم أن أوكي يتوقع أن توفر صناعة المواد الغذائية المزيد من الاستقرار، إلا أنه ينتظر أن تتضاعف فواتير الكهرباء في أغسطس مما سيتطلب قفزة بنسبة 4 في المئة في الإيرادات لتغطيتها.

ويعتمد التصنيع الياباني تقليديا على بيع المنتجات ذات القيمة المضافة، حيث يعزز الين الضعيف الأرباح. وقال أوكي إن هذا لم يعد قائما. واعتبر أن الوقت حان لإعادة التقييم.

رغم ذلك لا تضمن التغييرات والتجارب الجديدة في هيغاشيساكا استمرار الأنشطة الصناعية أو بقاء ثقافة الورش الصغيرة في اليابان. ويقول ناوهيتو أوميزاكي من الغرفة التجارية “لن نشهد إبادة كاملة إذا تمكنت المصانع من تجاوز التكاليف الإضافية. ولكن ذلك سيكون صعبا كلما طال أمد الأسعار المرتفعة”.

وأضاف أن النسيج الاجتماعي للمدينة بدأ بالفعل في التآكل مع إغلاق الشركات المملوكة للعائلات أبوابها إلى الأبد. وتكمن الأولوية القصوى في العثور على أشخاص يمكن الاعتماد عليهم للحفاظ على تقاليد التصنيع.

وفي أوكي طلب يوتو ميوشي البالغ من العمر 22 عاما المشورة من الرئيس التنفيذي بشأن ما إذا كان سيخلف والده في إدارة الأعمال بالورشة العائلية في مدينة مجاورة.

وقال ميوشي “كثيرا ما حذرني والدي من صعوبات إدارة الأعمال التجارية. ولكني أعلم تماما ما تعنيه فكرة الخلافة بالنسبة إليه. لقد قال لي يوما إن روحه ستنعم بالسلام إذا توليت زمام الأمور بعد رحيله.

مصدرالعرب اللندنية
المادة السابقةقطاع الأعمال الغربي يتعرض لخسارة بقيمة 70 مليار دولار جراء مغادرة روسيا
المقالة القادمةالعالم مهدد بالركود والتضخم يفرغ جيوب المستهلكين