تفعيل النقل المشترك: بـ 60 مليون دولار فقط!

بات مألوفاً أن يعتذر أحدهم عن تلبية دعوة، أو يطلب عقد اجتماع عبر أحد التطبيقات الإلكترونية، إما لعدم توافر البنزين، أو توفيراً له للحالات الطارئة. الأمر نفسه ينطبق على موظفي القطاعين العام والخاص ممّن أجبرتهم الأزمة على تقسيم أيام عملهم بين المكتب والمنزل.

ما لم يُصبح مألوفاً بعد هو استبدال السيارات الخاصة بوسائل النقل العام، حافلاتٍ وسيارات أجرة، بسبب تسعيرة النقل المرتفعة. تعرفة الـ«فان» مثلاً، زادت من 1000 ليرة إلى ما بين 10 آلاف و20 ألفاً. سائقون عموميون يطلبون ما يصل إلى 50 ألف ليرة على «توصيلة» داخل بيروت. أما إلى خارج العاصمة فتبدو الأرقام ضرباً من الخيال: 250 ألف ليرة من ضهور الشوير إلى بيروت (قبل الرفع الأخير لسعر صفيحة البنزين)، و500 ألف من بيروت إلى شكا. والذريعة شحّ البنزين وعدم القدرة على التحكّم بالمدّة التي يستغرقها المشوار، بعدما أصبح البلد يسير على توقيت محطات المحروقات: مغلقة تعني أن الطرقات شبه فارغة، ومفتوحة تعني زحمة خانقة تجعل قطع 5 كيلومترات بحاجة إلى ساعتين، خصوصاً على الأوتوسترادات التي صُرفت أموالٌ كثيرة على توسعتها كحلّ… لزحمة السير، قبل أن تؤكد تجربة الأشهر الماضية أنّ إنشاء جسور وتوسعة طرقات، بمعزلٍ عن خطّة شاملة للنقل ترتكز على تقليل الاعتماد على السيارات الخصوصية لمصلحة وسائل النقل العمومية، لم تؤدِّ إلّا إلى تشجيع استخدام السيارات وزيادة الضغط على البنى التحتية.

الاستثمارات في البنى التحتية أمرٌ مهم، «ولكنّها تبقى نظرة قاصرة إذا لم تقترن بخطة للنقل العام، لأنّ الطرقات لم تشكل في أي مرة حلّاً لأزمة النقل»، بحسب المدير العام رئيس مجلس إدارة مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك زياد نصر. فهذا الإجراء لا يؤمّن عدالة التنقّل بين المواطنين ولا يُشجّعهم على الاستغناء عن السيارة، «ومع الأسف، ممارسات السنوات السابقة كانت تدميرية لقطاع النقل، حتى وصلنا إلى مشاهد الطوابير أمام المحطات وانهيار النقل العام بالكامل، ومأساة المواطن غير القادر على التنقل لتلبية احتياجاته اليومية بسبب غياب النقل المشترك. ما نمرّ به نتيجة طبيعية للسياسات المُتّبعة منذ عقود».

بين 1992 و 2018، رُصد نحو 2.63 مليار دولار لتطوير النقل العام من دون نتيجة. عام 1995، صدرت دراسة لإنشاء خطّي «مترو »في بيروت مع 4 خطوط ترامواي، بكلفة تُقارب 2.5 مليار دولار. عام 2004، اتّخذ مجلس الوزراء قراراً بشراء 250 أوتوبيساً لبيروت الكبرى، حرّض القطاع الخاص على منع تنفيذه ورفضته البلدية. سنة 2010 أعلن وزير الأشغال السابق غازي العريضي أنّ خطة النقل العام مُجمّدة بقرارٍ من رئيس مجلس الوزراء السابق فؤاد السنيورة («الأخبار»، 17 أيلول 2010). سنة 2013 صدرت النسخة النهائية من دراسة أعدّها بنك الاستثمار الأوروبي حول النقل العام، بكلفة مليوني دولار كهبة للدولة، وكانت جاهزة للتطبيق. سنة 2019، قُبل قرض من البنك الدولي بقيمة 295 مليون دولار لتمويل مشروع الباص السريع، قبل أن يتقرّر أخيراً تحويل 255 مليون دولار منها لتمويل البطاقة التمويلية وبقي فقط 40 مليون دولار في وزارة الأشغال العامة. يُعلّق مهندس النقل زاهر مسعد بأنّ هذا «كان آخر مُتنفّس نملكه. قبل أن تُعدّل وجهة استخدامه، هناك بلديات رفضت أن تمر الخطة في نطاقها بذريعة أنها تضيّق طرقاتها». مشاريع كثيرة لم يكن الهدف يوماً تنفيذها، بل مسايرة الدول الغربية طمعاً بمزيد من القروض.

حالياً، ألغت الأزمة «امتياز» امتلاك سيارة وسهولة تأمين البنزين بسعر متدنٍ، فتجدّد الحديث عن تطوير النقل العام. «نحن اليوم بحاجةٍ إلى حلّ سريع، قبل الانتهاء من استراتيجية النقل، لأنّ الناس لا تملك بدل صيانة سياراتها ولا توجد محروقات. الخيار الأسهل والممكن هو تشغيل الباصات بأسعار مدروسة من الدولة مع توقيت عمل واضح ومحطات وقوف مُحددة. هناك دراسات تؤكد أنّ هذا المشروع يُكلّف 60 مليون دولار كحدّ أقصى، على أن يترافق مع تنظيم سيارات الأجرة والسرفيس». يؤكد مسعد أنّ من غير المُمكن تطبيق حلّ آخر غير الباصات، «لأنّ التغيير يبدأ من ثقافة المواطن، وتعزيز ثقافة المشي، ثمّ شبكة الباصات. بعدها ننتقل إلى الخيارات الأكثر تطوراً. في لبنان، الطرقات غير مؤهلة وثقافة استخدام النقل العام غير موجودة». ليس فقط لدى العامة وإنما لدى السلطة السياسية حتى ما بعد الأزمة، وظهر ذلك في تحويل قرض البنك الدولي لتمويل البطاقة التمويلية. يعتبر نصر ذلك «انتكاسة للمرفق الحيوي. واجب الدولة تأمين النقل المشترك، وإذا كان الهدف بناء شبكة حماية اجتماعية، فإنّ النقل في طليعة الخدمات العامة التي تحتاجها الناس».

مصدرجريدة الأخبار - ليا القزي
المادة السابقةجدول أسعار المحروقات الجديد
المقالة القادمةنحو إعادة الاعتبار للسلم المتحرك للأسعار؟ | جدول أسعار المحروقات… حبر على ورق