تتعامل السلطتان السياسية والنقدية منذ بدء الأزمة مع «العبوات الناسفة» المزروعة تحت القطاعين الدوائي والإستشفائي بطريقة واحدة: «إطالة الفتيل». فكلما اقتربت «شرارة» العجز الكلي للمواطنين عن تأمين أبسط المتطلبات الصحية، من ملامسة «صاعق» فاتورتي المستشفيات والصيدليات، تمد الفتيل بوصلة محلية، أو بأخرى مستعطاة دولياً. بيد أن فتائل السلطة تقصر يوماً بعد آخر، مهددة بانفجار إجتماعي لن يسلم من عصفه أحد.
بشكل تدريجي رفعت وزارة الصحة الدعم عن جميع الأدوية والمستلزمات الطبية باستثناء المستعصية منها، والمتعلّقة بغسيل الكلى ودعامات القلب. في المقابل حررت المستشفيات دولارها الاستشفائي، مسعّرة معظم خدماتها على سعر صرف السوق الموازية. إجراءان لم تستطع الجهات الضامنة الرسمية مواكبتهما بزيادة قيمة التغطية. إذ بقيت تقديمات الضمان الاجتماعي تحتسب على أساس سعر صرف 1500 ليرة لمعظم الخدمات الطبية، فيما رفعت تعاونية موظفي الدولة دولارها إلى 6000 ليرة.
حلول موقتة
أمام هذا الواقع الذي يعيق إمكانية حصول المرضى على أبسط الخدمات الطبية، لم تجد الدولة حلاً إلا بـ»اطالة الفتيل»، وذلك من خلال اللجوء إلى الاجراءات التالية:
– اتخذت الحكومة في الجلسة الاخيرة لها في 20 أيار الفائت قبل أن تتحول إلى تصريف الاعمال قراراً يقضي بالطلب من مصرف لبنان سداد مبلغ وقدره 35 مليون دولار اميركي شهرياً للأشهر الأربعة القادمة من حقوق السحب الخاصة SDR، لزوم شراء ادوية الامراض المستعصية والمزمنة والسرطانية، والمستلزمات الطبية.
– أمّنت وزارة الصحة منحة مازوت من صندوق قطر للتنمية للمستشفيات الحكومية (34 مستشفى و 14 منشأة صحية)، وصل منها لغاية اليوم 4 دفعات من أصل 9.
– قدم البنك الاسلامي قرضاً بقيمة 30 مليون دولار لشراء معدات طبية للمستشفيات.
– دعم البنك الدولي تعرفات استشفاء مرضى وزارة الصحة العامة في المستشفيات كافة بنسبة ثلاثة أضعاف ونصف الضّعف.
مشكلة هذه الحلول على أهميتها، لا تتعلق بكونها قاصرة عن إنقاذ المواطنين والقطاع الاستشفائي فحسب، إنما موقتة أيضاً. فالسلفة من حقوق السحب الخاصة لشراء الادوية المستعصية تنتهي هذا الشهر. وتفقد المستشفيات الحكومية مع مطلع العام القادم المازوت المجاني الذي يشكل أكثر من 50 في المئة من كلفة التشغيل. ونسبة الذين يتطببون على نفقة وزارة الصحة ارتفعت من 48 إلى 70 في المئة نتيجة دعم التعرفة، الامر الذي يهدد بزيادة الاعباء على الوزارة، خصوصاً في ظل ميزانية لم تعد تتجاوز 10 ملايين دولار بعدما كانت 330 مليوناً».
ولعل أخطر ما في «فتائل» السلطة القصيرة، هو تسديد أكلاف جلسات غسيل الكلى المدعومة كلياً للمستشفيات من قبل الجهات الضامنة، ووزارة الصحة بعد مرور عام. ففي لبنان نحو 4800 مريض يغسلون، بكلفة شهرية تقدر بحوالى 80 مليار ليرة، أو ما يعني 1000 مليار في السنة. ومع تدهور الاوضاع المادية للمستشفيات، ولا سيما الخاصة منها، أصبح هذا التسديد المتأخر لهذا المبلغ يشكل «تحدياً حقيقياً في المقدرة على الاستمرار بتقديم الخدمة»، بحسب رئيس نقابة المستشفيات الخاصة في لبنان السيد سليمان هارون، «فالمستشفيات تدفع لمزوّدي أدوات العلاج، ولبقية الموردين فوراً وبالدولار». وهو الأمر الذي يرهق موازنات المستشفيات، ويهدد بانخفاض قيمة الاموال مع مرور الوقت التي تذهب «فرق عملة»، على حد وصف هارون. حيث أن مبلغ الـ 1000 مليار الذي كان يوازي مثلاً 37 مليون دولار في نهاية العام 2021، أصبح اليوم لا يشكل اكثر من 26 مليوناً، ومن الممكن أن تنخفض قيمته أكثر مع نهاية العام الجاري.
خلافا لبقية المرضى الذين يتحملون فروقات العلاج نقداً، على سعر صرف يوازي 90 في المئة من سعر الصرف في السوق الموازية، فان مرضى غسيل الكلى لا يدفعون شيئاً. وعليه فان كلفة هذا العلاج على المستشفيات تصبح «مرهقة»، بحسب هارون. إذ أنها لا تقتصر على الأدوات المستعملة في الجلسات فقط، إنما يضاف اليها توفير الكهرباء لتشغيل المعدات، وأجهزة التدفئة والتبريد، وأجور العاملين، واستهلاك المعدات… وغيرها الكثير من التكاليف الجانبية غير الملحوظة في التعرفة.
إذا ما استمر التعاطي بهذه الطريقة، فان مستشفيات عدة ستجد نفسها مضطرة لاقفال أقسام غسل الكلى، والتوقف عن تقديم هذه الخدمة، أقله إن كانت على الجهات الضامنة. الامر الذي سيعرض حياة آلاف المرضى للخطر خصوصاً مع تعذر استقبال بقية المستشفيات فوق طاقتها الاستيعابية وصعوبة تنقل المرضى بين الاقضية والمحافظات.
الحل موجود… ولكن!
هذه الاخطار المحدقة جدياً بالمرضى لم تعنِ شيئا للمعنيين في القطاع الصحي، رغم أن حلها قد يكون بسيطاً. فبالاضافة إلى ضرورة تعديل التعرفة فان كل ما يتطلبه الامر بحسب هارون هو:
– تسريع الدفع للمستشفيات عن مرضى الكلى. وهذا يتم من خلال فصل فواتير غسل الكلى عن بقية الفواتير، ودفعها بشكل شهري. خصوصاً أن المريض لا يتحمل أي فروقات.
– الطلب من المصارف تسييل قيمة الشيكات المدفوعة من الجهات الضامنة نقداً وفوراً من دون حجزها في الحسابات، إفساحاً في المجال للتسديد للموردين الذين يرفضون تقاضي الشيكات.
الحلان المقترحان ليسا تعجيزيين، فلماذا المماطلة باعتمادهما؟ سؤال لا جواب عليه لغاية اللحظة، رغم التهديد الجدي اللاحق بمرضى غسيل الكلى.
المأزق الذي أوقعت به السلطة مرضى الكلى، ينسحب على كل المرضى إذا ما وسعنا البيكار. فقبل رفع الدعم كليا عن المحروقات والادوية كان الدولار الاستشفائي يشكل 63 في المئة من سعر السوق. ومع رفع الدعم أصبح الدولار يوازي دولار السوق أو يقل عنه بنسبة 10 في المئة على أكثر تقدير، كون هناك مصاريف قليلة جداً ما زالت تدفع بالليرة، مثل أجور العاملين في القطاع، فيما جرت دولرة بقية المصاريف. وهنا مكمن الداء المستعصي. فلا الجهات الضامنة تستطيع تحمل هذه الكلفة بأي شكل من الاشكال. ولا المواطن الذي يتقاضى دخلاً محدوداً بالليرة اللبنانية يمكنه دخول المستشفيات. «هذا الواقع نلمسه ونشعر به يومياً بشكل مؤلم»، يقول هارون. «حيث هناك مرضى يموتون في منازلهم بسبب عجزهم عن دخول المستشفيات. هذه المأساة الانسانية والاجتماعية يترجمها تراجع معدل الاشغال في المستشفيات إلى 50 في المئة، مقارنة مع 80 في المئة في مرحلة ما قبل الازمة. فالمريض بحسب هارون لم يعد يدخل المستشفى إلا «على آخر نفس». ولا يستطيع تأمين أدوية العلاج المزمن من أدوية قلب وسكري وغيرها من الادوية التي تسبب انعكاسات خطيرة على صحته.
الحل الوحيد لانتشال القطاع الصحي يتجلى في أمرين: المساعدات الدولية، وبدء معالجة تداعيات الازمة النقدية. وفي الحالتين يؤكد هارون أن «ما من مساعدات وقروض للقطاع الخاص، قبل إبرام لبنان اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي وتنفيذ الشروط الاصلاحية». فهل يستجيب المسؤولون قبل أن يتحول البلد إلى مقبرة كبيرة؟