لم يكن أحد ليتخيّل الوضع الذي وصل إليه الإقتصاد اللبناني حاليًا، والأهم أن لا أحد كان ليتخيّل عمق الأزمة التي ضربت قطاع كان يتغنّى به لبنان طوال عقود أي القطاع المصرفي. فقد تراجعت الثقة بالقطاع المصرفي اللبناني إلى مستوياتها الدينا بعد ما كان العالم بأجمعه يثق بهذا القطاع ويُرسل ودائع على الرغم من الوضع السياسي والأمني المتأزم.
العديد من الخبراء يعزو الأزمة الإقتصادية والمالية التي تضرب لبنان وهزّت الثبات النقدي إلى الفساد المُستشري وغياب السياسات الإقتصادية للحكومات المُتعاقبة. كما عزا الخبراء تراجع الثقة بالقطاع المصرفي إلى الإجراءات التي إتخذتها المصارف والتي لامست التطرّف أحيانًا بحسب الخبراء.
المرحلة القادمة أصبحت تُشكّل هاجس للمواطن اللبناني حيث يتسائل عن تاريخ إعلان إفلاس لبنان أو قيام المصارف بإقتطاع أموال من الودائع أو إنهيار سعر صرف الليرة اللبنانية! نعم هذه هي حال المواطن اللبناني الذي ينتهز الفرصة لإنتزاع أمواله من المصارف وتخزينها في المنزل أو إرسالها إلى الخارج.
من هذا المُنطلق، نطرح السؤال عن السيناريوهات المُحتملة في المرحلة القادمة؟ لهذا الغرض كان لنا لقاء مع الباحث الإقتصادي البروفسور جاسم عجاقة حيث قمّنا بطرح الأسئلة التالية عليه:
س: كيف تقيّمون الوضع الإقتصادي، المالي والنقدي الحالي؟
ج: يُعاني لبنان من أزمة يُمكن تصنيفها من أكثر الأزمات خطورة على الكيان اللبناني حيث أن مُشكلة مالية عامّة رديئة ممزوجة بعقوبات على أحد المصارف اللبنانية، تحوّلت إلى أزمة شحّ دولارات في السوق خلقت طلب كبير على الودائع في المصارف وبالتالي أجبرت هذه الأخيرة على وضع قيود على حركة الكاش بالدولار الأميركي إن داخليًا أو التحاويل بإتجاه الخارج. وهذا الواقع خلق مُشكلة للتجار الذين يستوردون قسم كبير مما يستهلكه لبنان، مما إضطرّهم إلى شراء الدولار لدى الصيارفة وبالتالي إرتفعت الأسعار وأغلقت العديد من الشركات أبوابها وتم صرف العديد من العمال. وهذا الأمر فرض تراجع إيرادات الخزينة العامة بنسبة تفوق الـ 35% بحسب أرقام وزير المال. لكن الأخطر يبقى بدون أدنى شك تراجع الوضع الإجتماعي للمواطن اللبناني وهو ما أدّى (وسيؤدّي في المستقبل) إلى زيادة الفقر إلى نسب قدّرها البنك الدولي بأكثر من 50% من الشعب اللبناني وهو سابقة تاريخية منذ الحرب العالمية الأولى.
س: ما هي الحلول للخروج من هذه الأزمة؟
ج: أي حلّ مهما كان نوعه يفرض وجود حكومة نظرًا إلى أن الدستور أعطى هذه الحكومة الصلاحيات في القرارات الإقتصادية والمالية. واليوم وبحسب ما نرى هناك مُشكلة كبيرة في تشكيل الحكومة التي تتأرّجح بين فيتو أميركي وفيتو داخلي! من هذا المنطلق نرى أن عدم تشكيل الحكومة هو الأمر الأكثر خطورة حاليًا نظرًا إلى أن غيابها يعني أن لا حلول لأي أزمة! حتى حكومة تصريف الأعمال لا يُمكنها أخذ القرارات اللازمة لتدارك الوضع الحالي (مع العلم أننا نُشجّع تفعيل مثل هذه الحكومة).
عمليًا وبفرضية تشكيل حكومة، هناك عدد من الخطوات الواجب القيام بها وعلى رأسها بالطبع تقييم الوضع المالي للدولة اللبنانية وتقديم جدول يحوي على إستحقاقات الدولة المالية في الفترة المقبلة مع التواريخ بالإضافة إلى الإيرادات مع التواريخ بهدف المقارنة ومعرفة ما يتوجّب على الدولة وما هي إيراداتها وإذا ما كان هناك حاجة لإيرادات إيضافية، البحث عن حلول لمثل هذه الإيرادات. في الواقع نتائج هذا الأمر ستؤدّي إلى تعديل جذري في موازنة العام 2020 التي لم تعد صالحة بصيغتها الحالية نظرًا إلى التغير الكلي في الإطار الإقتصادي والمالي والنقدي للدولة اللبنانية.
س: هل هناك من هيركت على الودائع أو خفض في قيمة الليرة؟
ج: نسمع كل يوم مثل هذه الطروحات على وسائل الإعلام، لكن السؤال الأساسي: كيف يعرفون أن هذه الطروحات هي الحل؟ وكم هي قيمة الهيركت؟ أو كم هو سعر الليرة لحلّ الأزمة؟ والأهم هل الهيركت أو خفض قيمة الليرة تحلّ مُشكلة لبنان؟
بإعتقادنا كل هذه الطروحات هي طروحات سابقة لأوانها نظرًا إلى أنه لم يتمّ القيام بجردة على إستحقاقات الدولة المالية وإيراداتها في الفترة المقبلة مما يعني أننا لا نعرف الحاجة الفعلية للأموال! أيضًا لا يُعقل بأي قاموس أن يتم القيام بهيركت أو خفض لقيمة الليرة من دون وقف الفساد المُستشري في عدّة مرافق في الدولة والتي تُخسّر الخزينة مليارات الدولارات سنويًا!
لذا بإعتقادنا أن هذه الطروحات غير منطقية في الوقت الحالي.
س: ما هي السيناريوهات المطروحة للمرحلة المُقبلة؟
ج: هناك ثلاثة سيناريوهات: الأوّل تفاؤلي، الثاني تشاؤمي والثالث وسطي (وهو الأرجح).
السيناريو التفاؤلي ينص على قيام حكومة متوافق عليها داخليًا وخارجيًا وبالتالي تقوم هذه الحكومة بوضع خطّة نهوض للسنوات الخمّسة القادمة تتضمن بحسب الأولويات: الشق المالي، الشق الإقتصادي، الشق الإجتماعي والشق البيئي.
السيناريو التشاؤمي ينص على عدم القدرة على تشكيل حكومة وبالتالي سيكون هناك تدهور في الأوضاع المالية والإقتصادية والنقدية والإجتماعية وهو ما سيؤدّي إلى إضطربات إجتماعية قدّ تؤدّي إلى تفشي الجريمة. وهذا السيناريو هو الأسوء على الإطلاق والنتائج السلبية مفتوحة على مخيّلة القارئ!!!
السيناريو الوسطي وهو الأكثر إحتمالًا وينص على تشكيل حكومة لا تُرضي بالكامل الداخل والخارج لكن سيكون بمقدورها تدارك الوضع المالي والإقتصادي والنقدي من دون أن يكون لها القدرة على النهوض الكامل بالواقع الإقتصادي نظرًا إلى إرتباط الوضع اللبناني بملفات إستراتيجية مثل ملف النفط والحدود مع العدو الإسرائيلي واللاجئين الفلسطينين والنازحين السوريين والصراع الأميركي – الإيراني والصراع الأميركي – الروسي.
في الختام لا يسعنا القول إلا أن لبنان دخل مرحلة حرجة من تاريخه لا يعلم أحد ما ستؤل إليه التطورات في الفترة القادمة.