في تاريخ 21/2/2020، سُجلت أول حالة كورونا في لبنان، وبدأ الوباء بالانتشار بشكل متسارع لغاية 21/3/2020، لتدخل بعدها البلاد في فترة انحسار بطيء وتدريجي. بعد ذلك، شهدت الجائحة فورة جديدة، ظنّ الجميع أنها محدودة، حيث بدأت بتاريخ 6/5/2020، ولكنها ما لبثت أن انحسرت بدءاً من 10/5/2020 قبل ان يعود الفيروس ويتفشّى خلال الأيام القليلة الماضية بوتيرة تصاعدية.
بغية الحدّ من الانعكاسات الكورونية، عمدت غالبية الدول إلى تخصيص موازنات طائلة لإعادة إحياء الاقتصاد ودعم القطاعات كافة.
فمواجهة الأزمات المالية ما بعد “كوفيد-19” يتطلب إمكانات ضخمة من قبل الحكومات، فضلاً عن مرونة كبيرة من قبل المصارف المركزية لتمكينها من ضخ السيولة في المفارق الاقتصادية الحيوية.
في لبنان، يشير الوضع الراهن للمصرف المركزي وللحكومة إلى عجزهما التام عن تصميم وتنفيذ السياسات الإنقاذية، بعد أن تم توجيه قيمة الإنتاج المحلي، ولعقود طويلة، نحو المديونية التي صُرفت من دون أي مردود للاقتصاد ومعه للمواطنين، بل خُصّصت لتمويل الهدر والسرقات والفساد والإثراء غير المشروع.
يشكل الغياب الكامل لإمكانيات الدولة والمصرف المركزي في مواجهة “الكورونا” دليلاً واضحاً لضرورة إعادة فتح المرافق الحيوية، خصوصاً وأن الشعب، ومعه القطاع الخاص قد اعتاد على تدبّر أموره بنفسه، مع ما يعنيه ذلك من عودة المواطنين إلى دوامة الخطر الصحي، وفرض نمط تعايش مع الجائحة يتطلب عادات غير مألوفة في المنازل، والعلاقات الاجتماعية، وعلاقات العمل، وغيرها، كما ويترافق مع قلق دائم من خطر الإصابة.
في هذا السياق، تشدّد أوساط متابعة لـ”نداء الوطن” على أن فترة الوباء ستطول، وسيستمر عدد الإصابات بالتصاعد حيث يتوقع ان يتخطى هذا العدد الـ 4000 إصابة قبل نهاية العام. ذلك يعني أن الاقتصاد الوطني سيتكبّد حوالى 2% من قيمته وفقاً للتقديرات المالية لنفقات الاختبارات والطبابة والاستشفاء، تضاف إلى الانكماش الاقتصادي الذي قد يتخطى الـ13% بحسب توقعات وزارة المال وقد يزيد عن 30%. ذلك، فضلاً عن أعداد الوفيات التي تبقى مؤلمة حتى ولو بقيت نسبها ضئيلة مقارنة مع الدول الأوروبية، وذلك بسبب انخفاض متوسط الأعمار في لبنان.
تطرح كل هذه الارقام تساؤلات عدة حول مستقبل القطاع التأميني في لبنان، خصوصاً وأنّ الأثر المباشر لـ”كورونا” على شركات التأمين، وبمعزل عن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، يتّخذ أكثر من منحى.
قبل كل شيء، لا بد من التذكير بأن شركات التأمين قد استوفت بالفعل أقساطاً تأمينية على السيارات والطبابة وغيرها قبل الإجراءات الحكومية والتعبئة العامة. وقد نتج عن هذه الإجراءات انخفاض الطلب على الخدمات التأمينية على مختلف الاصعدة، اولاً بسبب انخفاض أعداد السيارات على الطرقات، وثانياً لشبه انعدام طلبات القبول داخل المستشفيات باستثناء الحالات الطارئة التي لا يمكن تأجيلها، فضلاً عن إقفال المكاتب والمعامل وما ينتج عن ذلك من انخفاض في حوادث العمل وغيرها. ذلك يعني أن شركات التأمين سوف تحقق أرباحاً أعلى من المستويات العادية على المدى القريب.
أما تغطية مصابي “الكورونا” المؤمّنين، فهي لا تكبد شركات التأمين اعباء مالية كبيرة، بما أن اكثر من 50% من العقود التأمينية لا تغطي الحالات المرضية الناجمة عن الاوبئة، اضافة الى فشل وزير الاقتصاد والتجارة راوول نعمة بحلّ هذا الملف، علماً أنّ نسب الإصابات لدى الأشخاص المؤمّنين ستكون أقل بكثير من النسب المسجلة على مستوى البلاد.
مشاكل… مستقبلية
على المدى المتوسط، سيتعرض القطاع لعدد من الضغوطات قد تؤثر سلباً على أرباحه، وبشكل كبير.
فمن جهة أولى سوف تضغط الشركات للحصول على حسومات وتخفيضات على أقساط التأمين الخاصة بها. أما الأفراد فسيعتمدون التأمين الانتقائي، أي أنهم لن يطلبوا تجديد عقود التأمين إلا إذا ارتأوا أنها قد تعود عليهم ببعض الفائدة، أو انها قد تؤمن لهم حماية ضرورية. تستثني هذه الفرضية التأمينات الطبية التي من المتوقع ان يستمر الإقبال عليها بسبب ضمانة التجديد (قرار 186/ل.م.ض. لسنة 2018)، والتي قد يفقدها المؤمّن إذا ما تخلف عن تجديد عقده، وبالنظر إلى الحماية المستجدة لمخاطر الأمراض الوبائية (قرار 80/ل.م.ض. لسنة 2020).
بشكل عام، من المتوقع أن تشهد السوق إنخفاضاً كبيراً في الإقبال على منتجات تأمينات الحياة والادخار، بالإضافة إلى التأمينات على المركبات والتأمينات العامة المرتبطة بشكل وثيق بالحركة الاقتصادية.
اما من جهة ثانية، فسترتفع تكلفة المنافع التأمينية بشكل مطرد بسبب التضخم، وتدهور سعر الصرف، لا سيما بالنسبة لتكاليف استبدال قطع المركبات، الخدمات الطبية، المعدات وغيرها. سيترافق هذا الارتفاع مع غياب تام لأية رقابة على أسعار السلع والخدمات، وعدم وجود مرصد علمي يسمح للمعنيين بمتابعة وقياس مدى المعاناة اليومية للبنانيين.
كل ذلك يعني انه ولمواجهة المخاطر المحدقة، لا بد من فرض عمليات دمج باتت اكثر من ضرورية وذلك بهدف خلق كيانات تأمينية أكبر وأقوى من تلك الموجودة حالياً، والتي ستكون لديها الإمكانات المالية للصمود والاستمرار خلال فترة الأزمة ونظراً للتفاقمات التي قد تنتج عن الفيروس الكوروني.
في سياق متصل، أرسلت جمعية شركات التأمين”ACAL” أوائل الشهر الحالي كتاباً لوزير الاقتصاد والتجارة راوول نعمة، تطلب فيه التوصل الى صيغة لناحية تقاضي بدل البوالص التأمينية بالليرة اللبنانية وتحديد سعر الصرف الذي ستعتمده الشركات. إلا ان الوزير لم يجب حتى الساعة ما يعني ان الشركات ستفرض تسعيرة جديدة على أساس سعر صرف السوق الموازية، من دون أي تحرك من قبل الوزارة ومعها لجنة مراقبة هيئات الضمان، لضبط هذا الفلتان ولحماية الناس من المزيد من الاعباء في ظروف معيشية أكثر من خانقة.