قفزة عملاقة للصين: الاستحواذ على صناعة السيارات الكهربائية والليثيوم

تخطو الشركات الصينية خطواتٍ ثابتة في مشروعها الهادف لتحويل بكين إلى عاصمة السيارات الكهربائية في العالم، مستفيدةً من الخبرات التي تمتلكها البلاد في تكنولوجيا الهواتف الذكية، التي تشبه تكنولوجيا السيارات الكهربائية إلى حدٍ كبير، فضلاً عن دعم الحكومة المركزية والسياسات الضرائبية المُحابية للسيارات الكهربائية. وها نحن ذا نشهد غزو السيارات الصينية للأسواق العالمية، بسعي الشركات الناشئة “نيو” و”بايتون” و”إكس بنغ” و “بي واي دي” و”بي إيه آي سي” وغيرها، إلى كسب عملاء شركة السيارات الكهربائية الأميركية الرائدة “تسلا”، والشركات الألمانية.

تفوق صيني

أبدت جمعية “سيارات الركاب الصينية” قبل بضعة أشهرٍ، توقعاتها بكسر مبيعات السيارات الكهربائية في الصين علامة ستة ملايين سيارة هذا العام. وهو رقمٌ قياسي، يتجاوز بأشواط مبيعات شركة “تسلا” الأميركية، بل ومبيعات العالم أجمع. ووفقاً لبعض التقديرات، فإن ربع السيارات الجديدة التي تم شراؤها هذا العام في الصين، هي عبارة إمّا عن سياراتٍ كهربائية بالكامل أو سياراتٍ هجينة تعمل بالكهرباء. وهناك أكثر من 300 شركة صينية تقوم بتصنيع السيارات كهربائية، وتقدم عروضاً لسيارات يقلّ سعرها عن 5 آلاف دولار، وطرازات تنافس “تسلا” وشركات صناعة السيارات الألمانية. ما يعني أن شعار الزعيم الصيني، شي جين بينغ، الذي أطلقه عام 2014 لتحويل بلاده “من دولة سيارات كبيرة إلى قوة سيارات”، أصبح فعلاً حقيقة ملموسة.

استغرق الأمر من الصين أكثر من عقدٍ من الزمن لتنجز هذا التحول. وتضمن ذلك إعاناتٍ حكومية وخطة لبناء 20 مدينة لصناعة السيارات الكهربائية، إلى جانب الاستثمارات طويلة الأجل، والإنفاق الضخم على البنية التحتية الذي جعلها تستحوذ على 60 في المئة من عدد محطات الشحن، البالغة أكثر من 862 ألف محطة في جميع أنحاء العالم. ويُعدّ الطلب القوي على السيارات الكهربائية نقطة مضيئة في الاقتصاد الصيني الراكد، والذي يتعامل مع أزمة في سوق العقارات. لذا، قالت بكين إنها ستواصل ضخ الأموال في السيارات الكهربائية كجزءٍ من خطة التحفيز الاقتصادي. وأعلنت الشهر الماضي إنها ستمدد الإعفاء الضريبي لمركبات الطاقة الجديدة حتى عام 2023 بتكلفة 14 مليار دولار.

وعلى المقلب الآخر، تواجه الولايات المتحدة صعوبة في منافسة الأسعار الصينية، وحتى الحوافز الأميركية الجديدة أثارت تساؤلاتٍ حول مدى فعاليتها في معالجة عوامل الحد من استخدام السيارات الكهربائية، مثل قوائم الانتظار الطويلة والإمدادات المحدودة والأسعار المرتفعة. ورغم أن قانون “خفض التضخم الأميركي”، الذي تم تمريره الشهر الماضي في الكونغرس، تضمن تخفيضات ضريبية على السيارات الكهربائية، مع شروط تتعلق بمكان تصنيع السيارات ومكان الحصول على البطاريات، فقد اشتكى صانعو السيارات من أن هذه التخفيضات لا تشمل نماذج عديدة من السيارات الكهربائية.

السيطرة على الأسواق

لم تحقق الصين الكثير من النجاح في مجال صناعة السيارات العاملة بالوقود، فالمستهلكون الصينيون فضلوا غالباً العلامات التجارية الأجنبية مثل “فولكس فاغن” و”جنرال موتورز” و”تويوتا” على سياراتهم المحلية. لكن عصر الكهرباء منح الصين فرصة أخرى، لأن المركبات الكهربائية تحتوي أجزاء أقل ويسهل إنتاجها، في وقتٍ يحدّ فيه نقص المكونات من إمدادات المركبات الكهربائية ويخلق فرصة للشركات التي يمكنها التسليم بسرعة. ناهيكَ أن بكين تسيطر بشدة على المواد الخام الهامة.

وبذلك، ضخ المصنعون الصينيون مليارات الدولارات في تطوير صناعة السيارات الكهربائية، بدعمٍ مالي كبير من الدولة. واستحوذت العلامات التجارية للسيارات الكهربائية المحلية على نصيب الأسد من مبيعات الكهرباء داخل الصين، وبدأ بعضها، في الظهور في الأسواق الخارجية، ما يشكل منافسة جديدة لشركات صناعة السيارات التقليدية. ثم ما لبثت الشركات المصنعة الصينية في زيادة إنتاج السيارات الكهربائية قبل أن يفعل معظم منافسيها الغربيين، ما منحها “ميزة كبيرة” في كفاءة التصنيع. كما سرّعت الحكومات المركزية والإقليمية في الصين هذه الاندفاعة من خلال تقديم دعمٍ كبير لمصانع السيارات الكهربائية المحلية، وفرض رسوم على البنية التحتية ومشتريات المركبات الكهربائية الاستهلاكية، وحماية صانعي البطاريات الصينيين من المنافسة الأجنبية. وهذه الأمور مجتمعةً أدت إلى سيطرة الصين على نصف الشركات التي تصنع السيارات الكهربائية في العالم.

وقد يُفاجأ المستهلكون عندما يعلمون أنه حتى بعض العلامات التجارية الغربية الشهيرة تصنع مركباتها الكهربائية في الصين قبل بيعها في الأسواق الغربية. فمثلاً، تقوم “بي إم دبليو” بصناعة سيارة “iX3″، وهي سيارة دفع رباعي كهربائية، في الصين، لتصديرها إلى أوروبا ودول أخرى، وتخطط للقيام بالأمر نفسه مع بعض طرازات “Mini” الكهربائية. وتقوم “تسلا” بتصدير آلاف المركبات من مصنعها في شنغهاي إلى أوروبا، على الرغم من أنه من المتوقع أن يتولى مصنعها الجديد في برلين معظم الإنتاج الأوروبي.

غزو الأسواق الأوروبية

وبسبب العوائق التي تحول دون دخول السوق الأميركية، بما في ذلك ضريبة استيراد بنسبة 25 في المئة فرضتها إدارة ترامب على السيارات الصينية، وحوافز ضريبية أميركية جديدة مصممة لتحفيز شراء المركبات الكهربائية والبطاريات المصنوعة في أميركا الشمالية.. بدأت الشركات الصينية توجه اهتمامها نحو أوروبا. فبدأت شركة “نيو” ومقرها شنغهاي، ببيع سيارتها ” ET7 سيدان” في هولندا وألمانيا والدنمارك والسويد والنرويج. أما أكبر شركة لصناعة السيارات في الصين، “SAIC” المملوكة للدولة، والتي اشترت العلامة التجارية البريطانية “أم جي” في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، فباشرت ببيع العديد من طرازات “أم جي” الكهربائية في أوروبا، بما في ذلك سيارة هاتشباك ذات الميزانية المحدودة. وأطلقت شركة “بي واي دي” الشهر الماضي، ثلاث سيارات كهربائية للبيع في أوروبا في معرض باريس للسيارات.

وصول العلامات التجارية الصينية إلى أوروبا، دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ليحثّ في مقابلة صحافية عشية معرض باريس للسيارات، المستهلكين الأوروبيين على شراء سيارات مصنوعة في الاتحاد الأوروبي. وأثناء زيارته للمعرض، مرّ ماكرون بجوار القسم المخصص لشركة “بي واي دي” من دون إلقاء نظرة موجزة عليه، فيما فُسر لاحقاً بأنه علامة ازدراء وإشارة إلى أن الإجراءات الحمائية يمكن أن تزيد في الاتحاد الأوروبي، حيث تبلغ رسوم الاستيراد على السيارات الصينية حالياً 10 في المئة.

المنافسة على الذهب الأبيض

ويبقى أن نشير إلى أمرٍ في غاية الأهمية، ألاّ وهو سيطرة الصين على الليثيوم، وهو معدن إستراتيجي في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية. فإلى جانب استخدامه في الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر والأجهزة اللوحية ومجموعة من الأدوات الأخرى المرادفة للحياة الحديثة، يُعدّ الليثيوم، الذي أُطلق عليه البعض “الذهب الأبيض”، عنصراً أساسياً في البطاريات التي تشغل السيارات الكهربائية.

في تقريرٍ عن توقعات الطاقة العالمية 2022، قالت وكالة الطاقة الدولية إن الصين تستحوذ على ما يقرب من 60 في المئة من إمدادات الليثيوم الكيميائية في العالم. مضيفةً أنها تنتج ثلاثة أرباع بطاريات “الليثيوم أيون” عالمياً. وفي خطابها عن حالة الاتحاد الأوروبي، قالت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، إن “الليثيوم والأتربة النادرة ستكون قريباً أكثر أهمية من النفط والغاز”.

مع وضع ما سبق في الاعتبار، يتطلع عدد من الشركات في أوروبا إلى تطوير مشاريع تتمحور حول تأمين توريد هذا المعدن. وهكذا، بدأ التخطيط لتطوير مشروع لاستخراج الليثيوم في وسط فرنسا، في حين أن منشأة تُوصف بأنها أول مصفاة ليثيوم كبيرة الحجم في المملكة المتحدة من المقرر أن يبدأ تشييدها في شمال إنكلترا.

وبالنظر إلى المستقبل، يتوقع سيمون كلارك، الرئيس التنفيذي لشركة “أميركان ليثيوم American Lithium”، استمرار المنافسة الجيوسياسية على هذا المعدن. معتبراً أن قانون “خفض التضخم الأميركي”، وعدد من الإجراءات الأخرى، بما فيها بدء الولايات المتحدة في طرق أبواب بوليفيا، صاحبة الاحتياطي العالمي الكبير من الليثيوم، حيث ربع الليثيوم المعروف عالمياً موجود في مناجم الدولة البوليفية.. هي بداية حقيقية لانتزاع بعض سلسلة التوريد من الصين.

مصدرالمدن - سامي خليفة
المادة السابقةآفاق قاتمة تحاصر نمو الشحن البحري العالمي
المقالة القادمةسرقة مازوت منشآت طرابلس: بابٌ لتثبيت تعيينات سياسية